لا تجتمع أمتي على ضلال للاستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين
الأستاذ عبد الوهاب حسين

قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: 103).

معاني المفردات:
اعتصموا بحبل الله: تمسكوا به لتمنعوا أنفسكم من الوقوع فيما تكرهون.
ألف بين قلوبكم: جمع بينكم على وئام ومحبة.

الخطاب القرآني العظيم في هذه الآية الشريفة المباركة موجه لأبناء الأمة الإسلامية ولأفراد الجماعات والتجمعات والمؤسسات الإسلامية، بوصفهم أعضاء في الأمة أو الجماعة أو التجمع أو المؤسسة.. وليس بصفتهم الفردية.

وسوف أقسم البحث في الآية الشريفة المباركة إلى محورين.. وهما:


المحور الأول
قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}

تتضمن هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة النقاط الأساسية التالية:

النقطة الأولى: الدعوة إلى الاتحاد والنهي عن الفرقة:
وذلك لأن في الاتحاد قوة ونجاح وتجلي صادق لعقيدة التوحيد والمحبة الرحمانية بين المؤمنين والمسلمين، وفي الفرقة ضعف وفشل وسقوط إلى الهاوية وتجلي فعلي للروح الشيطانية الخبيثة وسيطرتها على النفس الإنسانية الضعيفة.. فعلينا كمؤمنين: أن نحرص كامل الحرص على وحدة الصف والكلمة، ونحذر كامل الحذر من الفرقة والاختلاف، وإلا سوف نكون طعما سهلا للشيطان الرجيم، وأدوات لمراميه وأهدافه الخبيثة.

النقطة الثانية: بيان السبيل إلى الاتحاد وعدم الفرقة:
وهو التمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ} وقد جاءت الأحاديث وأقوال المفسرين بأكثر من معنى لحبل الله.. منها: الإسلام، والقرآن، وأهل البيت (عليهم السلام) وليس بين هذه الأقوال اختلاف جوهري.. ويمكن ردها (باختصار شديد) إلى ركيزتين أساسيتين وهما:

  • الركيزة الأولى: الرسالة: وتتمثل في الإسلام الحنيف الذي يحدد القرآن الكريم رؤيته ومضمونه من جميع الوجوه وعلى كافة الأصعدة وفي جميع مجالات الحياة المختلفة وميادينها.
  • الركيزة الثانية: القيـادة التي تلتقي مع القرآن: ويشترط فيهـا العلـم الكامل بالرسالة (العلم اللدني أو بواسطة الاجتهاد) والإخلاص لها، والكفاءة التي يتطلبها حمل الرسالة وتطبيقها.. ومن الكفاءة حسن الإدارة والتصرف. وأن تمتلك القيادة الإستراتيجية الواضحة والبرامج العملية الفاعلة التي تحتاجها حركة الرسالة على الأرض لكي تحقق أهدافها. فأهداف الرسالة الربانية لا يمكن أن تتحقق مع غياب الإستراتيجية الواضحة والبرامج العملية الفاعلة.. فوجودها لدى القيادة من المسائل الضرورية.

وهنا أرغب في التنبيه إلى ملاحظتين أساسيتين.. وهما:

الملاحظة الأولى:
أن هذه الشروط يجب أن تتوفر في كل قيادة إسلامية عليا، لأن التخلي عنها يؤدي (بالتأكيد) إلى نقض غاية الرسالة، ولا يمكن أن تقبل بذلك الرسالة الإسلامية المقدسة التي هي من لدن عزيز حكيم.. وعليه: لا يمكن القبول بالرأي الذي يقول بطاعة الحاكم الفاسق والظالم، لأن فيه نقض لغاية الرسالة وأصل التوحيد، ومن المستحيل أن يصدر مثل هذا التشريع عن الله الحكيم الخبير سبحانه وتعالى. بل لا يمكن القبول بالقيادة الضعيفة والتي لا تمتلك برامج عملية فاعلة على ضوء إستراتيجية واضحة تحدد الأهداف والطريق إليها، لأنها سوف تكون عاجزة وغير قادرة على تحقيق أهداف الرسالة الربانية التي أنزلها الله الجليل من أجل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، مما يشكل فراغا قياديا خطيرا، يؤدي إلى فقدان الوزن والقيمة على الأرض، وربما يدخل القيادة في دائرة العبثية.. والقبول بمثل هذه القيادة: مخالف لمنهج الإسلام الواقعي الذي ترتبط فيه الأهداف بالوسائل والطريق إلى الأهداف، وترتبط فيه النتائج بالمقدمات، ولا تعطي فيه المناصب لأسباب شرفية (فقط) لسواد عيون الأشخاص أو عناوينهم أو أنسابهم.

والخلاصة: أن القيادة المعتبرة إسلاميا: هي القيادة التي تمتلك العلم الكامل بالرسالة الربانية، وتثبت كفاءتها بالتجربة في تحقيق أهداف الرسالة، وتمتلك إستراتيجية واضحة وبرامج عملية فاعلة، وتكون على صلة وثيقة بقضايا الناس المصيرية والحيوية وحريصة بصورة كاملة عليهم. ولا تتخذ القيادة في الإسلام بصورة شرفية بناء على نسب الأشخاص أو العناوين التي يحملونها أو غير ذلك، لأنه مخالف للمنهج الإسلامي الواقعي المنزل من لدن العزيز الجبار. ولا تمنح القيادة لأحد على حساب القضايا والأهداف والمصالح الحيوية للناس أو توضع فوقها.. لأنه مخالف للحكمة.

الملاحظة الثانية:
أن الدعوة إلى الاتحاد والنهي عن الفرقة تستبطن التكليف بتوفير شروط الاتحاد والقضاء على أسباب الفرقة.. ومنها:

  • السبب الأول: الاختلاف حول الحق: لإتباع الهوى أو لتحكم العصبيات العرقية أو المذهبية أو لغير ذلك.
  • السبب الثاني: الفراغ القيادي: لغياب القيادة أو لنقص الكفاءة أو الخبرة أو الإخلاص أو لسوء الإدارة، أو لغياب الإستراتيجية الواضحة والبرامج العملية الفاعلة الكفيلة بتحقيق أهداف الرسالة الربانية العظيمة لدى القيادة.. ومن أهداف الرسالة (بالطبع): صيانة حقوق الناس ومصالحهم الحيوية وتبني قضاياهم المصيرية والدفاع عنها بصدق وإخلاص وعدم التفريط في شيء من ذلك.

والخلاصة: أن الآية الشريفة المباركة تأمرنا بالتعرف على الحق وتطالبنا العمل به وعدم التفرق عنه، وتنهانا عن أن نحدث ما يزيل الألفة ويحدث الفرقة بيننا.. ومن ذلك: العصبية وعدم الانضباط ونقص الشروط الرئيسية المطلوب توفرها في القيادة الصالحة الفاعلة.

النقطة الثالثة: أن الأمة الإسلامية أمة واحدة رغم تعدد المذاهب فيها:
كما يدل عليه لفظ جميعا {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} فالأمة الإسلامية من الناحية الفعلية أمة متعددة المذاهب بعد الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسوف يستمر هذا التعدد حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حيث تجتمع عليه الأمة كما اجتمعت على الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بل تجتمع عليه البشرية قاطبة. وقد أسست الرسالة الإسلامية لوحدة الأمة مع تعدد المذاهب، بتحديد الإطار الجامع لها وهو الشهادتين (أشهد إلا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله) والمطلوب من كافة المسلمين في الفترة الواقعة بين وفاة الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن يراعوا حقيقة أنهم أمة واحدة رغم تعدد مذاهبهم، وأن يحرصوا على هذه الحقيقة ويعملوا بها، فهي السبيل الوحيد لنجاتهم وقوتهم وعزتهم ونجاحهم في مواجهة الأخطار العالمية المحدقة بهم والأطماع الأستكبارية التي تلفهم، ويتيح لهم فرصة تطبيق الإسلام والعمل به والمحافظة عليه وتبليغه إلى العالم كما أمرهم ربهم جل جلاله بذلك.

أيها الأحبة الأعزاء: إن تعبير (حبل الله) في الآية الشريفة المباركة، يتضمن العديد من الدلالات المهمة.. منها:

  • الدلالة الأولى: أن الاتحاد والتعاون الذين يدعو إليهما الإسلام ليسا مجرد شعار فارغ من المضمون، وإنما هما ذا مضمون فكري وإنساني عميق ينشأ عن عقيدة التوحيد الخالدة، وتشكل رسالة الإسلام الخالدة تفاصيله الكاملة. فهما يجب أن يقوما على أساس الحق والعدل والخير وصلاح الناس وحفظ حقوقهم وصيانة مصالحهم الحيوية في الحياة، وليس على حساب شيء من ذلك.. قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فكل اتحاد وكل تعاون يقوم على أساس الباطل أو الظلم أو الشر أو التفريط في حقوق الناس أو بأتي على حساب مصالحهم الحيوية وقضاياهم المصيرية.. فهو من الشيطان ولأجله، ولا صلة له بالله الرحمن الرحيم ودينه الحنيف.قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الفرقة أهل الباطل وإن كثروا، والجماعة أهل الحق وإن قلوا”.كما أنهما لا ينفصلان عن الأدوات والوسائل المطلوبة لتحققهما، وفي مقدمتها القيادة التي تتوفر فيها كافة الشروط اللازمة.
  • الدلالة الثانية: أن الإنسان بدون الرسالة والقيادة الشرعية المتوفرة على كافة الشروط المطلوبة عقلا وشرعا.. يعيش خطر السقوط إلى الهاوية والهلاك المادي والمعنوي، وأنه يحتاج إليهما لكي ينتشلانه ويرفعانه إلى الأعلى، ليحصل على العيش الكريم والتكامل المعنوي في الحياة.

المحور الثاني
قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.

هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة: تقدم لنا الدليل على واقعية الدعوة إلى الاتحاد والنهي عن الفرقة، فالدعوة واقعية ومن الممكن أن تتحقق على أرض الواقع إذا توفرت الأسباب.. بدليل الحس والتجربة. فقد نجح الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في توحيد الأوس والخزرج تحت راية الإسلام العظيم رغم الحروب والعداوة المستحكمة بينهم لمدة تزيد على مئة وعشرون عاما.

وتتضمن هذه الفقرة من الآية الشريفة المباركة نقاط عديدة.. منها:

النقطة الأولى: الإشارة إلى أهمية الاتحاد وخطر الفرقة:
فقد وصف الله تبارك وتعالى نجاح الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق الوحدة بين المسلمين تحت مظلة الإسلام العظيم بالنعمة التي امتن بها عليهم {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} وقد تكرر لفظ النعمة في الفقرة محل البحث مرتين، وهذا يدل على الأهمية الكبرى للاتحاد والخطر الكبير الذي تشكله الفرقة على الدين والمجتمعات. كما يدل على أن الاتحاد القائم على أساس الألفة والمحبة هو من سعادة الإنسان وروحه وراحته، وأن الله تبارك وتعالى يمنحه لمن يحبه من عباده المؤمنين الصالحين. وقد فسر بعض العلماء قول الله تعالى: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} بالحروب والمنازعات.. فعلينا كمؤمنين: أن نحرص على توحيد صفوفنا، وأن نحذر من الاختلاف والفرقة، لكي نكون من أصحاب هذه النعمة الإلهية المباركة، ولكي نكون من أنصار الله جل جلاله وأحبائه، ولكي نكون من أصحاب السعادة في الدنيا والآخرة.

النقطة الثانية: أن العداوة لها أسبابها والألفة لها أسبابها:
ومن أسباب العداوة: الغفلة عن الله جل جلاله ونسيان الآخرة، والارتباط بالحياة الدنيا والتنافس على زخارفها، مما يؤدي إلى بناء نظام قيمي سيء يزرع الأنانية والحقد والحسد والبغضاء بين الناس. وللقضاء على العداوة وخلق الألفة بين المؤمنين، فقـد عالج الرسـول الأعظـم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الأسباب ولم يلجأ إلى الأمنيات وأحلام اليقظة، فربط المؤمنين بالله (ذي الجلال والإكرام) وذكرهم بالآخرة وشدهم إليها، وأحسن القيادة والإدارة والتوجيه وضبط أدوات عملها، مما أدى إلى بناء نظام قيمي رفيع، يزرع المحبة والألفة والوئام بين الناس، ويدعوهم إلى التعاون على البر والتقوى ويأخذهم إليهما بحسن القيادة والإدارة وبحسن التوجيه، وينهاهم عن الظلم والعدوان ويبعدهم عنهما بحسن القيادة والإدارة وبحسن التوجيه.. وهذا يدل على أمور مهمة منها:

  • الأمر الأول: أن الرؤية التي يحملها الإنسان عن الكون والإنسان والحياة، تؤثر بصورة مباشرة في تشكيل نظامه القيمي وتحدد نوعيته.. ومن خلاله تأثر في سلوكه ومواقفه.
  • الأمر الثاني: أن الإسلام يدعو إلى التعاطف والتآزر والمحبة بين الأسرة الإنسانية قاطبة وليس بين المسلمين فحسب.
  • الأمر الثالث: أن تحقيق أهداف الرسالة الربانية العظيمة ليس بالتمني والرغبات النفسية وأحلام اليقظة، وإنما يرتبط ارتباطا وثيقا بحسن القيادة والإدارة وحسن التوجيه ولا ينفصل عنها بأي حال من الأحوال.

النقطة الثالثة: الاتحاد الحقيقي:
أن الاتحاد لكي تكون له حقيقة ويؤتي ثماره الطيبة في المجتمعات أو الجماعات أو المؤسسات، يجب أن يكون قائما على الوئام والألفة والمحبة النابعة من القلوب {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} وليس مجرد اجتمع شكلي للأجساد في مكان واحد أو مؤسسة واحدة أي كان حجمها أو نوعها: دينية كانت أو سياسية أو حقوقية أو خيرية أو غيرها، فيكون مجرد اتحاد صوري لا حقيقة له ولا ثمرة طيبة ترتجى منه.. كما قال الله تبارك وتعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}.

النقطة الرابعة: أن الاتحاد الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس الدين الحنيف:
لأن الدين هو وحده القادر على تطهير النفوس وغسلها ومعالجة أمراضها حتى يقضي عليها بتعاليمه الربانية السامية التي تدعو إلى الوئام والألفة والمحبة والتعاون على البر والتقوى وتنهى عن الظلم والتعاون على الإثم والعدوان {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ويربطها بسبب السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهو التوحيد الذي يرفعها إلى الأعلى ويسمو بها فوق الأحقاد والإضغان والأنانية والحسد.


أيها الأحبة الأعزاء:
أكتفي بهذا المقدار من الوقوف على ما تضمنته الآية الشريفة المباركة وما ترشد إليه من أفكار وقيم وسلوك ومواقف. وعلى ضوء إشعاعات نورها المقدس العظيم، وفي ظل المواجهة بين حزب الله المنصور والكيان الصهيوني التي تدور رحاها على ارض لبنان وتأكل خيره وتدمر بنيته وتطحن أبنائه بين قتيل وجريح وتصلي بلهيبها الصهاينة على أرض فلسطين، أرغب في الوقوف على أطروحتين تتحركان على الساحة الإسلامية، وتقييمهما بموضوعية ونزاهة على أساس النتائج العملية وفق معيار اجتماع الأمة، وليس على أساس النظر العلمي لهما، برجاء المساهمة المتواضعة في توجيه الأمة مجتمعة إلى التمسك بالحق والعمل بالخير والعدل والصواب وما فيه مصلحتها في دينها ودنياها وآخرتها.. والأطروحتان هما:

أولا: الأطروحة التكفيرية: وفيها يكفر أصحابها غيرهم من المسلمين ويجيزون لأنفسهم استخدم العنف والإرهاب ضدهم وضد غيرهم من الناس، لأنهم لا يعترفون لهم بحقوقهم الطبيعية في الحياة.

ثانيا: أطروحة الوحدة الإسلامية: وفيها يعترف أصحابها بإسلام المذاهب والفرق الإسلامية المتعارف عليها تاريخيا بين المسلمين، وأن لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات، ولا يسمحون لأنفسهم بظلمهم أو ممارسة العنف والإرهاب ضدهم أو ضد غيرهم من الأبرياء أي كان دينهم أو مذهبهم، لأنهم يعترفون لهم بحقهم الطبيعي في الحياة وبحرية العقيدة والتعبير عن الرأي.

وفي بداية التقييم: أرغب في مناقشة ما طرحه أحد زعماء التكفيريين لتبرير جرائمهم الشنيعة بحق شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في العراق الجريح المظلوم..

فتبريره لذلك: أن القوى الشيعية الرئيسية اصطفت (بحسب زعمه) مع أمريكا ودول التحالف المستعمرين للعراق، وأنهم (أي التكفيريون) مع المقاومة الشيعية في لبنان لأنها تقاتل ضد الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.

وإذ أتمنى أن يكون تصريحه هذا بداية يقظة فكرية وروحية وأخلاقية ونقطة تحول لديهم في آرائهم ومواقفهم.. فإني أقول بشأن موقفهم من شيعة أهل البيت عليهم السلام في العراق: بأن تكفيرهم لشيعة أهـل البيت عليهم السلام وهدر دمائهم واستباحة أموالهم وأعراضهم، لا علاقة له (في الأصل العلمي لديهم) بادعائهم لاصطفاف بعض القوى السياسية الشيعية مع أمريكا ودول التحالف في العراق. فتكفيرهم لشيعة أهل البيت عليهم السلام مستقل في الأصل العلمي لديهم عن ذلك الاصطفاف، وهو قائم لديهم مع فرض عدم وجوده، وهو سابق عليه في الزمن. وأن تكفيرهم لشيعة أهـل البيت عليهم السلام مدعوم بممارسات إرهابية وظلم سابقين ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام في كثير من بقاع الأرض التي تشهد على تلك الجرائم والظلم الشنيع.. وأسأل إذا كان صادقا في ذلك التبرير: لماذا يستهدفون الأماكن المقدسة والأبرياء في المساجد والمآتم والأسواق وحفلات الزفاف وتشييع الجنائز وسائر الأماكن العامة، ولم يقتصر استهدافهم على العسكريين والسياسيين فقط؟

والآن تعالوا ننظر إلى قول الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تجتمع أمتي على ضلال أو خطأ” لنتدبر فيه ونحتكم إليه في تقييم الأطروحتين. فهو يعبر عن حقيقة عقلية قطعية تستند إلى مبنى حكمة الله العزيز الجبار ويقرها النص القرآني والحديث الصحيح.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54).

وقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك” (رواه مسلم)

ولنجعل من هذه الحقيقة معيارا لتقييم أطروحة التكفيريين والأطروحة الوحدوية المقابلة: انظروا إلى المجازر المروعة التي يرتكبها التكفيريون ضد أتباع أهل البيت عليهم السلام في العراق وخارجه، فهي تثير الاشمئزاز لدى غالبية المسلمين وهي محل استنكارهم، وهي تؤدي بطبيعة الحال إلى زرع الشقاق والخلاف وتنشر البغضاء بين المسلمين وتضعفهم أمام أعدائهم بخلاف ما يدعو إليه الدين الإسلامي الحنيف وتقتضيه المحبة والرحمة الرحمانية في قلوب المؤمنين الصادقين.

وانظروا إلى أعظم عمل قام به التكفيريون وهو أحداث (11 سبتمبر) فإنه لم يحصل على إجماع المسلمين، فقد رفضه الفقهاء والمفكرون والقوى الإسلامية الرئيسية في الساحة الإسلامية.. إن الجهاد عمل مقدس: ولكن تكفير المسلمين وقتل الأبرياء عمل قبيح يرفضه العقلاء ويستنكرونه لقبحه في نفسه ويقرهم الدين عليه. والبعد بين تكفير المسلمين وقتل الأبرياء وبين الإجماع.. كالبعد بين المشرق والمغرب!!

وانظروا في المقابل إلى انجاز الأطروحة الوحدوية المباركة المتمثلة في المقاومة الإسلامية التي يقودها حزب الله المنصور في لبنان، كيف وحد الصف الإسلامي والوطني في لبنان، وحصل على إجماع الأمة الإسلامية بصورة (ربما) لم يسبق لها مثيل في التأريخ الإسلامي بعد الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكيف تعاطف معه الكثير.. الكثير من غير المسلمين في جميع أنحاء العالم، ومنهم جماعات في أمريكا وبريطانيا واستراليا وغيرها من الدول المساندة للكيان الصهيوني في عدوانه.. مما يدل: على صواب منهج المقاومة ورشده، وأنه منهج هدى وفلاح، لأنه يستحيل أن تجتمع الأمة الإسلامية على ضلال أو خطأ بحكم العقل والنص الصحيح.. ولا عبرة في تقييم هذا الإجماع العظيم والحكم عليه: بموقف بعض الأشخاص (لأنه فوق الآراء والمواقف الشاذة للأشخاص) ولا بموقف بعض القوى الشاذة المنتسبة للإسلام، ولا بموقـف الأنظمة العربية الفاسدة والمنحرفـة (قطعا) عن الصراط المستقيم والمنهج القويم، وقد لبست بمواقفها من المقاومة لباس الخزي والعار في هذه الدنيا وتبرأت منها شعوبها وللقائمين عليها العذاب الأليم في الآخرة..

وأعتقد: بأن التكفيريين لو تجنبوا تكفير المسلمين الشيعة، وأتبعوا منهجا مماثلا لمنهج المقاومة الإسلامية في لبنان، وأن القوة التي استخدموها ضد الشيعة الأبرياء في العراق، قد استخدموها ضد المستعمرين المحتلين، لكسبت مقاومتهم تأييد كافة المسلمين وحصلت على إجماعهم، ولتغير المشهد تماما في العراق الجريح المظلوم.. إلا أن التكفيريين: لا يعترفون لشيعة أهـل البيـت (عليهم السلام) بحقهم في الحياة، لكي يعترفوا بأن لهم حق يتناسب مع حجمهم في حكم العراق.. وهذا هو سبب المصيبة الكبرى برأيي في العراق، بدون أن أقلل من أهمية الأسباب الأخرى!!

أيها الأحبة الأعزاء:
إنني أنتهز هذه الفرصة الذهبية في هذا الاحتفال المبارك بالذكرى السنوية للمولد السعيد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فأدعو كافة المسلمين لنبذ الأطروحات التكفيرية والحذر منها ومن التوتير الطائفي والفتنة الطائفية بين المسلمين.. فإن ذلك: ليس من الدين الحنيف (دين العدل والرحمة والمحبة) في شيء، وليس من الوعي الإسلامي والإنساني الموضوعي في شيء، وهو ضار (قطعا) بالدين ومصالح المسلمين وقضاياهم الحيوية والمصيرية.. وفي مقدمتها قضية المسلمين الأولى: قضية فلسطين العزيزة.

وأدعوهم إلى الالتفاف بقوة وصدق حول الأطروحات والخطابات والقيادات الوحدوية، وإلى ترسيخها على أرض الواقع وتمكينها وتطويرها. وأدعوهم إلى المحافظة على وحدة الصف الإسلامي والوطني، وإلى الالتفاف حول القضايا والأهداف الإسلامية والوطنية المشتركة: على الصعيد الداخلي والخارجي، والله هو مولانا {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} صدق الله العلي العظيم.

أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

شارك برأيك: