أضواء (٢): لهجتنا تصرخ؛ كوايمي اتْعورني!! بقلم أحمد عباس هلال

أحمد عباس هلال
أحمد عباس هلال

لهجات القرى هي مصداق هويتها، وذاكرتها وتاريخها، ووجود القرى مرتبط بوجود لهجتها، فلا وجود لقريةٍ يتخلى أهلها عن لهجتها.

ولهجة القرية هي هبة تميزُ أهلها عن عداها من باقي القرى، يكتسبها الفرد تدريجياً مع النمو الأول لخلاياه في شهور عمره الأولى من خلال لبن الأم وصوتها، يتعلمها كما يتعلم الأكل والشرب والمشي، دون جهد إراديٍ منه، إنما بدافعٍ غريزيٍ لبقائه وتحضره.

لذلك أصبحت اللهجة جزءاً لا يتجزأ من شخصية الفرد، تظل حتى وإن زاحمتها لهجاتٌ أخرى فيما بعد، وهي أقرب إليه للتعبير عن ما بداخله من فرحٍ أو حزنٍ أو عصبيه.

ومن المسلم به أن اللهجة وعاء الفكر، ومقياس الهوية والإنتماء، وتراث الأمه، وهي التي تستوعب فكرها وثقافتها على توالي العصور، وهي أيضاً وسيلة التعبير والتوصيل لدى أفرادها، ومادة التوثيق التي تضمن لفكر القرية بقاءً وخلودا، إذ تعبر لهجة القرية عن وحدة أفرادها ووحدة هدفهم وفكرهم في آن واحد.

ومن الطبيعي ان يهتم أبناء القرية بلهجتهم الأم، فهي أغلى ممتلكاتهم وابرز ملامح هويتهم، وذلك يستدعي مراجعة دورية في ظل المتغيرات الحالية والمستقبلية، ضماناً لبقائها في سباق الزحام الحضاري، لتظل قوية صلبة تعبر عن كيانها كما كانت سابقاً.

إلا أن واقعنا الحالي يستدعي مراجعة شاملة كاملة لما وصلنا إليه من حالٍ للهجتنا الدارجة، فقد أصبحت في خطرٍ محدق في ظل الإختلاط الطبيعي للأفراد بالمجتمع، وأنا لست ضد الإختلاط، إنما ضد التخلي عن الهوية، فترى الفرد مستعدٌ للتخلي عن لهجته حال لقائه بآخر ذو لهجةٍ أخرى، فتراه يتكلم بلهجته دون مراعاةٍ او اكتراثٍ لهويته وثقافته.

فخلال رحلة لجمهورية ألمانيا الإتحادية في العام ٢٠١٠ صادفتنا مشكلة بتذاكر النقل العام، إذ توقفنا قرابة الساعة دون حلٍ لمشكلتنا!!، إذ أن مشكلتنا لم تكن تحتاج لجهدٍ جهيدٍ لحلها، إلا أن التعصب القومي والتمسك باللغة هو ما كان عائقا آنذاك، فلم نجد أحداً يتحدث اللغة الإنجليزية نستطيع التفاهم معه لحل مشكلتنا، وفجأةً وبعد ساعة زمن تحدث سائق الباص بلغة إنجليزيةٍ ركيكة لنا وقال؛ بأن مسؤول الباصات سيكون بإنتظارنا في المحطة القادمة، فتعجبنا من معرفته للإنجليزية وعدم رده علينا من قبل، وما إن وصلنا لتلك المحطة تحدث لنا المسؤول باللغة الإنجليزية، وفجأة أثار هذا الأمر غضب إحدى الراكبات، فقامت تتحدث بعصبية معلنة باللغة الألمانية وهو يجيبها بكل برود، إذ قامت بعدها بالنزول من الحافلة وتسجيل رقم الباص واكمال مشوارها سيراً على الأقدام، وقتها حلت مشكلتنا، عندها قمنا بسؤال المسؤول عن سبب عصبيتها وعدم إجابة سائق الباص لنا مع معرفته للإنجليزية فأجاب؛ إن عصبية السيدة كانت لتحدثنا باللغة الإنجليزية فهي ممنوعةٌ علينا نحن الموظفين الألمان، وقال: إن من بنود التوظيف في ألمانيا التحدث بالألمانية ترويجاً لثقافتنا وهويتنا، فالحكومة الألمانية تدفع مقابلاً لمن يوافق على هذه الشروط ترويجاً للغتها حتى لا تندثر وتضيع وتبقى حكراً على الألمان نفسهم، وقال: إن غضب السيدة كان لذلك، فقد قامت بتهدي وإبتزازي إن قمت بالتحدث بالإنجليزية فستشي بي أو أن أدفع لها مقابلاً لذلك وهو ما كان لصالحي واستطعت التواصل معكم، فرفضت مساعدةً مني لكم وان الأمر لصالحي لما قامت به من إبتزاز، فأنا بدوري أدعوكم لتعلم الألمانية لتساعدكم في سفركم هذا وترويجاً لهدف الجمهورية.

الشاهد بأن القوميات والأقليات تعتز بلغتها ولهجتها ولا تتخلى عنها، بل تدفع مقابلاً للترويج لها، وتصرف الملايين في سبيل ذلك، بينما نحن نشاهد لهجتنا ولغتنا وهي المحاربة تندثر وتضيع ونحن نشرب ونحتسي من اللهجات واللغات الغربية الأخرى ونحن نضحك دون فائدة مرجوة.

وفنصيحتي للأحبة أبناء القرية ان لا يتخلون عن لهجتهم ويروجون لها، وان يتعلموا من الغرب ما هو مفيد ولمصلحتهم، فما أحلى أن تسمع وبرغم الوجع الذي فيها إحدى العجائز وهي تقول “كوايمي اتْعورني”، فهو تعبيرٌ بليغ عن الوجع الذي فيها وعن حالنا.

شارك برأيك: