نساء من قريتي، وأدوار تاريخية مميزة للباحث الأستاذ يوسف مدن

الأستاذ يوسف مدن
الأستاذ يوسف مدن

النساء كما قال حديث نبوي شريف هُنَّ شقائق الرجال، ولهنَّ مثلهم أدوار تاريخية مميزة صنعت تاريخ المجتمع النويدري، ورسمت حركة الأحداث فيه بالجهد الإنساني الفاعل، وبنشاط بارز، ومميَّز في فترة زمنية من القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، واستمر بعضهن في تقديم خدماته خلال السنوات المتقدمة من القرن الخامس عشر الهجري حتَّى وإنْ قسى بعض رجالات هذا المجتمع عليهن بأشكال الأذى، حيث تعددت مجالات النشاط الإنساني عند نسوة وأهالي قرية النويدرات كالعمل في مجالات عديدة كالفلاحة، ومهنة الخياطة، وتوليد النساء أو القابلات، والتطبيب الشعبي، وتغسيل أجسام أموات النساء، والعمل في صناعة بعض الحرف، والمهن الشعبية كالسلال وصناعة الحصر، وفتل الحبال، وجمع التمور، وخرْفِ الرطب، وجمع ألياف النخيل وصفه وحمل السعف وربطه بحبال من الليف، وطبخ الطعام، وغسل الملابس وتنظيف البرستجات والعرشان، والتعليم الكتاتيبي، والخطابة الدينية، وغيرها.

وبرز نفر من نساء القرية في مجال (توليد النساء)، وما ارتبط به من تغسيل المولود وتنظيفه، ولفه بقطع من القماش المسمى بـ”القماط”، وأيضاً (تغسيل أجساد الموتى من النساء)، وكلاهما من مجالات العمل التطوعي والخدمات الإنسانية النبيلة التي خدمت فيهما المرأة النويدرية مجتمعها بما أتاح الله لها من طاقات، ومثلها كسائر نساء المجتمع البحراني آنذاك، قدَّمن بالجهد الممكن تضحياتهن، كما تجاوزت نساء النويدرات بخدماتهن هذين المجالين، ويتسع نشاط المرأة النويدرية في هذه الخدمات لحديث كبير، إلاَّ أننا سنشير لأدوار بعض النساء في مجالات إنسانية ملحوظة كالتوليد وتغسيل الأموات والقراءة الحسينية، والجلوات، وحفظ التراث النويدري ومخطوطاته، وقد ذكرتها مصادر متوافرة شفهياً وكتابياً في قائمة، بينما لم يشر لقسم آخر من نسائنا.

ففي مجالي (التوليد وتغسيل الأموات) جاء نص قصير في دراسة تاريخية وحيدة أعدها فريق من مدرسة النويدرات للبنات (العام الدراسي ٩٥ / ١٩٩٦م) يؤكد على دور حيوي ومهم للمرأة النويدرية المكافحة بقريتنا العامرة، ويشير هذا النص إلى أسماء أشهر” القابلات “في مجتمع النويدرات، وأكثرهن من المغسلات لأجساد الموتى في نفس الوقت، وهُنَّ كما في نص دراسة مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات: (بنت محمد بن مخلوق أم أولاد حميد، ولعية بنت علي بن يوسف، وأمينة بنت حجي علي العصفور (قابلة قانونية)، وخديجة بنت حسن رمضان، وبنت عبد الله بن علي، وزمزم بنت إسماعيل، وسلمى بنت حسين مال الله أم الحاج يعقوب بن يوسف بن مدن”.

(لعية بنت علي بن يوسف) اسمها الصحيح (علياء)، وظل الناس ينطقون اسمها (لعية)، بتقديم حرف (اللام) على حرف (العين)، وعرفت به، وتكرر هذا مع امرأة باسم (علياء) في المجتمع النويدري، حيث اعتاد الأهالي في زمن سابق بخاصة النساء بقلب حرف العين لاماً، وتقديم اللام على حرف العين، ونطق “علياء” باسم “لعية”.

(سلمى بنت حسين مال الله أم الحاج يعقوب بن يوسف بن مدن) هو الآخر اسم خاطئ، فالاسم الصحيح لوالدة الحاج يعقوب بن يوسف بن مدن والمقصودة هنا في الدراسة هو أمه الحقيقية، وباسمها الصحيح (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله)، وكما وردت في وثيقة المناسخة الشرعية الصادرة عن الدائرة الجعفرية في عقار (إرث) للمرحوم الحاج علي بن سند النويدري، وليس باسم سلمى الذي أوردته الدراسة التاريخية التي أعدها فريق مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات.

كتاب (حنين الحاضر إلى عبق الماضي)، من إصدارات مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات، ص ٣٠ – ٣١.

وثمة أكثر من خطأ في المعلومات الخاصة بهؤلاء القابلات، فبعضهن أشير لهنَّ، ولم يذكر اسمه، وبعضهن ذكرت بالاسم مع تحريف غير مقصود، كالخطأ الواضح في ذكر اسم (سلمى بنت حسين بن مال الله) بدلاً من ذكر اسمها الحقيقي (سلامة)، مع أنَّ المقصودة في هذه الإشارة هي أختها وشقيقتها الكبيرة (المرحومة فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) أم الحاج يعقوب بن يوسف مدن التي سنمر على تحديد دورها الاجتماعي فيما بعد، واستوجب هذا الخطأ ضرورة هذا التصحيح، وقد رصدنا من هؤلاء النسوة عينة محدودة، وذكرناهن هنا بترتيب زمني إكراماً لهنَّ، وتذكيراً بجميل ما فعلناه في فترة زمنية صعبة كان المجتمع النويدري بحاجة لخدماتهن الإنسانية، وذلك لتوافر بعض المعلومات التاريخية عن بعض النساء في مجالي التوليد وتغسيل الأموات، وفي مجالات الخطابة الدينية أو إدارة الحسينيات، وخدمة التراث الثقافي المخطوط في مجتمعنا النويدري.

ومنهنَّ مَا يأتي:

١. فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله النويدري (١٩٥٥م / ١٣٦٥هـ):
عرفت باسمها هذا (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله النويدري) البحراني، وأدركت رحمها الله كما يرجح سنوات مخضرمة من القرنين (١٣، ١٤) الهجريين، وتوفيت بحدود عام (١٣٧٥هـ / ١٩٥٦م)، أي بعد ولادة حفيدها (الأستاذ يوسف بن يعقوب مدن) بعامين تقريباً، وذلك بعمر زاد قليلاً عن الثمانين سنة، وعانت المرحومة (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) كالناس من متاعب زمانها، ومشكلاته المتفاوتة في شدة تأثيراتها الضاغطة.

(فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله النويدري) هكذا عرفنا اسمها في الفريضة الشرعية من الدائرة الجعفرية التابعة لوزارة العدل والشئون الإسلامية والأوقاف، وقد ورد بنفس التسلسل في وثيقة المناسخة الشرعية الصادرة عن المحكمة الصغرى الشرعية للدائرة الجعفرية في البحرين، تحت رقم تسجيل (٧٦٩ / ٢٠١٦م)، ومؤرخة في يوم (١١ رجب ١٤٣٧هـ / ١٩ ابريل سنة ٢٠١٦م).

وقد تزوجت المرحومة (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) بادئ الأمْر من المرحوم (الحاج حسن بن الحاج علي بن سند)، وأنجبت له أولاده (إبراهيم، وعلي، وأحمد مات في زمن حياتها) كما ذكرت وثيقة رسمية، وهي بمثابة فريضة شرعية لعقار (بيت)، ونعني بها (وثيقة المناسخة الشرعية في عقار) كائن بقرية النويدرات نفسها، وبعد وفاة زوجها الأول حسن بن الحاج علي بن سند تزوجت المرحومة الفاضلة (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) مرة ثانية من المرحوم “يوسف بن عبد الله بن مدن بن يوسف” والد الحاج يعقوب بن يوسف بن عبد الله بن مَدَن بن يوسف، ورزقت منه أبناؤهما الثلاثة، المعروفين في قرية النويدرات وهم على التوالي (شيخة، وعبد الله والحاج يعقوب) رحمهم الله تعالى جميعاً.

المرحوم “يوسف بن عبد الله بن مدن بن يوسف” أحد متولي قرية النويدرات  في تلك الفترة الزمنية.

لكنَّ المرحومة (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) اشتهرت بين جيلها بحبها، وتفانيها في عملها الإنساني التطوعي (توليد النساء)، وكانت تقطع المسافة بين النويدرات وبربورة (ليلاً)، وفي ظروف الظلمة والخوف واحتمال المكروه، وتجاوز المسافة بين قريتها النويدرات وأية قرية مجاورة لهذا الغرض نفسه، حيث تترك مشاغلها، وتضحي راحتها الشخصية لاستقبال مولود جديد في أسرة أخرى، ومساعدة (أم ولود) على سلامة ولادتها، وأشارت لهذا الدور الاجتماعي الإنساني النبيل دراسة أعدتها في العام الدراسي (٩٥ / ١٩٩٦م) مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات عن تاريخ قرية النويدرات، وتراثها الاجتماعي والثقافي، فذكرتها لسوء الحظ باسم خاطئ وبعض المعلومات غير الصحيحة، حيث ذكرتها الدراسة المعنية كإحدى (أشهر القابلات، ومغسلات الموتى) في قرية النويدرات: “سلمى بنت حسين بن مال الله (أم الحاج يعقوب بن يوسف بن مدن).

كتاب (حنين الحاضر إلى عبق الماضي)، مصدر سابق  ص ٣٠ – ٣١

وقد وقع أصحاب هذه الدراسة في خطأين واضحين، فالاسم الصحيح لأم الحاج يعقوب بن يوسف مدن، وهي ممن قمن بتوليد النساء وتغسيل الأموات منهن هي المرحومة (فاطمة بنت حسن بن علي بن مال الله) النويدري، وليست سلمى كما جاء في الدراسة التاريخية المذكورة، فالمقصودة هنا هي فاطمة بنت حسن أم الحاج يعقوب بن يوسف بن مدن، وأخيه الحاج عبد الله، وأختهما (شيخة)، وكذلك كانت فاطمة بنت حسن مال الله هي أم لأبنائها الثلاثة من زوجها السابق الحاج حسن بن علي بن سند وهم على التوالي: (علي، وإبراهيم، وأحمد)، وهي أيضاً عمَّة الوجيه المرحوم الحاج أحمد بن معراج، وأخويه مدن والحاج علي.

(أحمد ابن الحاج حسن بن علي بن سند) توفاه الله عز وجل قبل الإنجاب.

أمَّا اسم أختها الصغرى، والمعاونة لها في عملية توليد النساء فهو (سلامة) لا سلمى، وكانت أختها الكبرى (فاطمة) تصحب شقيقتها (سلامة) في عمليات توليد النساء بغرض مساعدتها، وتدريبها على تعلم وإتْقَان أداء هذه المهمة الإنسانية النبيلة وممارستها، وتعتبر السيدة (سلامة) أخت فاطمة ابنتي المرحوم حسن بن علي بن مَال الله النويدري، هي والِدة المرحومين الحاج عبد الله بن علي بن الحاج علي بن سند وأخيه الحاج حسن بن علي بن الحاج علي بن سند، وأخواتهما الأربع (زينب، وحليمة، وسكينة وزهراء) رحمة الله عليهنَّ.

الحاج حسن بن علي بن سند، وهو (الابن الأصغر) لأمه (سلامة بنت حسن بن علي بن مال الله) ابنته ما تزال حيَّة، واسمها (سلامة) أيضاً، ومتزوجة الآن من ابن عمتها معراج بن حسن بن عيسى مال الله، ويؤكد هذا أن اسمها الصحيح سلامة لا سلمى كما جاء خطأ في الدراسة التاريخية لمدرسة النويدرات الابتدائية للبنات.

٢. الحاجة أمينة بنت الحاج علي بن عصفور (١٩٨٧م):
عُرِفت هذه المرأة الفاضلة بين الناس في قرية النويدرات ومجتمع غيرها، بخاصة في مجتمعها النويدري، باسم ” عصفورة “، وهو لقب كان يحدد انتماءها، ونسبها العائلي، فإذا قيل بينهم اسم ” عصفورة ” عرف الناس أنَّها المقصودة بهذا اللقب، وقد عاشت رحمها الله عز وجل أغلب حياتها في سنوات القرن الرابع عشر الهجري، وقد أدركت رضوان الله عليها في الوقت ذاته سنوات قليلة ومعدودة في العقد الأول من القرن الخامس الهجري، حيث توفيت صباح يوم الجمعة (١٩ من شهر يونيو سنة ١٩٨٧م)، والموافق الثاني والعشرون من شهر شوال، سنة 1407ه، فهي إذن كسابقتها من المعاصرات اللواتي أدركت سنوات متداخلة، ومشتركة من القرنين (١٤، ١٥) الهجريين.

مصدر تاريخ الوفاة: درباس، عبد الرضا علي سلمان، ملف ورقي لتدوين (تواريخ وفيات).

تزوجت الفاضلة “عصفورة” عليها شآبيب رحمة ربها ولطفه فيما نعلمه من المرحوم “الحاج حسن بن الحاج مرهون آل صالح النويدري البحراني” على حد وصف أحد الخطاطين، وناسخي الكتب من أهالي النويدرات، وأنجبت له ابنتين هما (سعدة زوجة المرحوم الحاج كسيل بن أحمد بن كسيل، وابنتها الأخرى الحاجة زهراء زوجة الحاج عبد الوهاب بن جمعة، وأم علي ومهدي)، ورزق الحاج حسن بن مرهون منها ابنه الوحيد من الذكور، وهو (المرحوم الحاج معتوق بن حسن بن مرهون آل صالح) النويدري كما ذكر الناسخ والخطاط الحاج حبيبي بن يوسف آل الشيخ يوسف، وجميع أبنائه ترك وراءه ذريَّة بحمد الله، وبعد وفاة زوجها عاشت الحاجة أمينة بنت الحاج علي عصفور عند ابنها المذكور، وفي بيته حتى توفاها الله سبحانه وتعالى، وتقوم بمهمتها الإنسانية النبيلة والتطوعية في توليد نساء القرية وغيرها.

ذكر الناسخ والخطاط الحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد بن الشيخ يوسف بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد العكري أصلاً، والنويدري منزلاً اسم الحاج حسن بن مرهون بن صالح النويدري البحراني بعد شرائه مخطوطة كتاب نسخه الحاج حبيب باسم (مقتل الإمام الحسين لابن مخنف) عام ١٣٢٧هـ، انظر هذا المخطوط، الورقة الأخيرة، وكان ذلك في حاشية إضافية.

وكانت باسمها “عصفورة”، وبعملها التطوعي في توليد النساء وغسل الأموات منهن، قد اشتهرت رضوان الله عليها بين الناس، وقد ذكرت لشهرتها الاجتماعية ضمن قائمة أسماء (القابلات ومغسلات الموتى) بـ”قابلة قانونية”، إذ منحت من قبل إدارة الصحة العامة بوزارة الصحة البحرانية قبل وفاتها (إجازة وشهادة قانونية للعمل في مجال توليد النساء)، وهي شهادة رسمية في تقدير نشاطها في ممارسة هذه المهنة الإنسانية بتطوع ذاتي، وقد ذكرت الدراسة التاريخية التي أعدتها مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات هذه التسمية المهنية الاحترافية، ومهارتها في هذا المجال، كما قامت بتدريب عدد من نساء القريبة بالتمرس على هذه المهنة النبيلة.

٣. علياء بنت علي بن يوسف (ت ١٩٩١م):
ولدت السيدة (علياء بنت علي بن يوسف) بتاريخ نجهله، ولكنه من المؤكد في إحدى سنوات القرن الرابع عشر الهجري، وهي سنة غير معلومة على وجه الدقة كما ذكرنا، ومع ذلك فقد أدركت بضع سنوات قليلة من العقد (الأول، الثاني) في القرن الخامس عشر الهجري، حيث توفيت رحمة الله عليها في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأربعاء، بتاريخ التاسع من يناير سنة (١٩٩١م)، والموافق يوم (الثاني والعشرين من شهر جمادى الثانية، سنة ١٤١١هـ).

ملف تواريخ وفيات، مصدر سابق، محفوظ عند الأستاذ عبد الرضا درباس.

وكان اسمها ينطق خطأً على ألسن بعض الناس من أهالي القرية باسم (لعية)، وعرفت به بينهم بهذه التسمية غير الصحيحة، وقد ورد اسمها أيضاً هكذا في قائمة “القابلات ومغسلات موتى النساء” من أهالي قرية النويدرات، وسكان القرى المجاورة لها، وهي القائمة التي ذكرتها آنفاً الدراسة التاريخية التي أعدتها مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات عن التراث التاريخي لهذه القرية، وأشرنا لها قبل قليل، فكتبت الدراسة اسمها كما في التداول الشعبي (لعْيَة)، ولكن اسمها الصحيح هو (علياء بنت علي بن يوسف)، وكتب على “ساجة قبرها”، وهو مكتوب بوضوح تام في اللائحة المرفوعة على الجدار الأمامي لـ”مأتمها”، وهي لائحة صادرة عن إدارة الأوقاف الجعفرية في البحرين.

هناك أكثر من امرأة في قرية النويدرات باسم (علياء)، ولكن الأهالي ينطون هذا الاسم بلفظ (لعية)، وقد انتشر بينهم، وتداولوه على ألسنتهم بهذا النطق الخاطئ، ومنهم اسم هذه المرأة الفاضلة.

وكسائر النسوة تزوجت أحد رجالات سترة، وأنجبت منه بنتاً واحدة قيل أنها توفيت وطفلتها الجديدة أثناء الولادة، وتزوجت أيضاً المرحوم الحاج محمد بن ناصر النويدري، انفصلا عن بعضهما، ولم تنجب منه، والله أعلم، وتركت هذه المرأة الفاضلة في حياتها، وبعد موتها ذكريات عظيمة مع الناس، وجعلت اسمها خالداً بينهم، وذِكْراً شائعاً في تاريخ قرية النويدرات، ولهذا المرأة المؤمنة أفضال عديدة بارزة على المجتمع النويدري ومسيرته التاريخية، إذ قامت (بنت علي بن يوسف) رحمها الله تعالى بإنجاز عدد من جلائل الأعمال، والمسئوليات التطوعية، والأدوار الجليلة، والمهام الاجتماعية والدينية النبيلة في مجتمع قريتها، ومجتمعات القرى والمناطق القريبة، وهي مهام تطوعية ملحوظة نبعت من داخل كيانها الذاتي كنشاطات خيرية، ولم تأخذ عليها شيئاً سوى طلب أجر الله تعالى وثوابه عزَّ وجل.

وسنحاول الإشارة المختصرة لما قامت به في حياتها الطيبة من أعمال ومسئوليات وأدوار.

فالقائمة النسوية المميزة التي ذكرها فريق الدراسة التي أعدتها مدرسة النويدرات الابتدائية للبنات استبطنت دورين مهمين من أعمالها الإنسانيَّة التطوعية النبيلة، وهما (توليد النساء، وتغسيل الأموات منهن)، وكان المجتمع النويدري آنذاك بحاجة لمن تقوم من النسوة بهذه الأدوار، ولم تذكر هذه القائمة شيئاً عن تأسيس مأتمها المشهور بقرية النويدرات، فهذا المأتم أحد العلامات البارزة في حياتها، وسبب رئيسي في اهتمامنا بالحديث الموجز عن خدماتها، وتضحياتها، والدور التاريخي الذي اضطلعت به هذه المرأة الفاضلة في قريتها النويدرات، وآثاره في مجتمعات القرى المجاورة لها.

انظر كتاب حنين الحاضر إلى عبق الماضي، مصدر سابق، ص ٣٠ – ٣١

وقد عرفت السيدة علياء بنت علي بن يوسف بمأتمها النسوي بالقرية، واشتهرت كذلك بإدارتها المباشرة لهذا الصرح الديني المهم، وما يزال يحمل اسمها في القرية حتى بعد وفتها، ويُعد مأتمها أقدم المآتم النسائية في النويدرات، وكما سمعنا فإنَّ قصة مأتم بنت علي بدأ بإقامتها العزاء على الحسين في” عريش أو برستج “، وتجمع النساء فيه، ثم قيل بحسب ما سمعنا أنها رحمها الله أتت أحد أبناء قريتها النويدرات، وطلبت منه أرضاً كانت له وإخوانه، وطلبت منه أن يهب الحسين عليه السلام هذه الأرض فوافق بالتشاور مع إخوانه على ذلك، وقيل أنها لشخص آخر، وبدأت بنت علي إقامة العزاء فيها حتى تم تسجيلها في سجلات إدارة الأوقاف الجعفرية، وهذه الرواية المحلية متداولة بين بعض الناس بطريقة النقل والسماع اللفظي، وهو مصدرنا في معرفتها.

وتشير أحدى العبارات التي وردت في كتاب (عماد بيت هوى) إلى أقدميته التاريخية والزمنية قبل وجود المآتم الأُخَر، وهو تاريخ مألوف يعرفه أهالي قرية النويدرات في أوساطهم الاجتماعية والشعبية، حيث جاء في الكتاب المذكور عن البدايات الأولى لتأسيس مأتم أم حسين ما لفظه:
“وكانت أول بذرة لتأسيس المأتم (مأتم أم حسين) عام ١٩٦٠م عندما انفصلن أربع نسوة، واحدة منهن أم المرحومة عن مأتم بنت علي”.

كتاب عماد بيت هوى، مصدر سابق، ص ٧

ويراد من ذلك انفصال أم المرحومة بنت الحاج عبد الحسين بن جعفر، أي أمَّها (مدينة سرحان) أمها، وهي الفاضلة المرحومة (مدينة بن عبد الله بن الحاج علي بن سرحان التي كانت معروفة بالعبادة والتقوى والورع، وكانت خادمة للحسين عليه السلام)، فمأتم “أم حسين” كان متأخراً في وجوده التاريخي عن مأتم بنت علي، وأن تأسيس مأتم أم حسين كان أحد آثار انفصال النسوة الأربع عن مأتم (علياء بنت علي بن يوسف)، وهو المأتم الذي انفصلن عنه أربع نسوة، وكانت “أم حسين” إحدى من ساهم في تأسيس مأتمها الجديد، بينما كان مأتم بنت علي بن يوسف قائماً آنذاك، ومنذ سنين سابقة، وقبل عام ١٩٦٠م، وهو المأتم النسائي الأول، فـ”بنت علي بن يوسف” لها فضل الأسبقية في تأسيس مأتمها بقريتها (النويدرات)، وتوثيق كيانه شعبياً، وتثبيته في السجلات الرسمية.

كتاب عماد بيت هوى، مصدر سابق، ص ٤

وهكذا جمعت المرحومة (علياء بنت علي بن يوسف) رحمها الله تعالى في حياتها القيام بأدوار اجتماعية، ومسئوليات دينية حيوية، ومهمَّة يومئذ بمجتمع قريتها (النويدرات)، وأسهمت في إشباع احتياجاتهم الروحية والوجدانية والمعرفية والاجتماعية، وكسبت بإيمانها وخدماتها ونشاطها أجر ربها وثوابه عز وجل، وإلى جانب ذلك تقدير الناس ومودتهم واحترامهم في دنياها نتيجة خدماتها النبيلة، وتفانيها، وتضحياتها المباركة في مجال تعزيز قيمها الدينية والاجتماعية.

٤. المُلاَّية والخطيبة الحسينية المرحومة أم حسين  (ت ١٤٣٥هـ / ٢٠١٤م):
هي الملاية الفاضلة المرحومة الحاجة زينب بنت الحاج عبد الحسين بن الحاج علي آل سعييد، وكانت بالتحديد من أسرة مؤمنة وفاضلة ومتدينة هي أسْرة (آل السعيد) الكرام، ويرى حفيدها الشيخ حسن السعيد أنَّها: “ولدت سنة ١٩٤٠م بحسب السجلات الرسمية في قرية النويدرات، ولكنَّها حقيقة ولدت في الثلاثينات من القرن الماضي ونشأت في كنف خالها الحاج محمد بن عبد الله بن سرحان”.

كتاب “عماد بيت هوى”، من إعداد حفيدها الشيخ حسن بن علي آل سعيد، مصدر سابق، ص ٥

وتزوجت بادئ الأمر في قرية النويدرات زواجها الأول من ابن خالها المرحوم الحاج علي بن محمد بن الحاج عبد الله بن سرحان، وأنجبت له على التوالي (أحمد مات صغيراً، وفاطمة وحسيناً).

كتاب “عماد بيت هوى”، إعداد الشيخ حسن بن علي آل سعيد، مصدر سابق، ص ٥

ثم بعد انفصالها تزوجت مرة أخرى من المرحوم الحاج علي بن محمد كاظم المعروف بأبو دهُّوم في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة (١٣٨٣هـ)، ورزقهما الله سبحانه وتعالى ذريَّة صالحة هم: (صديقة، ونجاة، والأستاذة منيرة، وفداء ماتت بعد الولادة، وزهرة ماتت بعد الولادة، وخديجة ماتت بعد الولادة، والأستاذ حسن)، وكان العلامة الشيخ منصور بن الشيخ محمد بن سلمان الستري يُكنيها بـ”أم حسنين” فكنَّاها بعض الناس بهذا اللقب تأسياً بالشيخ منصور رحمه الله تعالى. ولكن اشتهرت بين الأهالي وسائر الناس بـ”أم حسين”، وغلبت هذه التسمية، فمتى ذكر هذا اللقب توجه السهم صوب شخصها الكريم، وسجِّلَ مأتمها في الأوقاف الجعفرية بالاسم نفسه.

عماد بيت هوى، مصدر سابق، ص ٥

(زهرة) كتبت هكذا في المصدر، وأظنه (زهراء)، والله أعلم، فشيوع هذا الاسم تيمناً باسم فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد صلى الله عليه وآله لا تيمناً بزهرة (من النبات)

وانخرطت في أداء مسئولياتها الدينية والعبادية والاجتماعية التي عشقتها بمحض إرادة ذاتية في مجتمع النويدرات، وفي مجتمعات مجاورة، وبقيت على ذلك نشطة، لا تفتر في خدمة أئمة أهل البيت عليهم السلام، بخاصة خدمة الإمام الحسين بن علي وشهادته الفاجعة مع أهله وصحبه في كربلاء حتى آخر حياتها، فتوفيت رحمها الله عزَّ وجل في مركز السلمانية الطبي بعد معاناة طويلة مع مرضها في يوم الاثنين (الرابع عشر من يوليو من سنة ٢٠١٤م، الموافق السادس عشر من شهر رمضان ١٤٣٥هـ) عن عمر قارب الثمانين سنة قضتها في عبادة الله وكسب رضاه ومحبة الآخرين وخدمة الفقراء والمساكين، وكل من طلب الحاجة منها، واهتمت هذه المرأة الصالحة خلال فترة حياتها، وكما نعرف بأداء أدوار مهمَّة، واكتسبت شهرتها بواسطتها داخل القرية وخارجها، ومن الأدوار التي اضطلعت بها على امتداد عمرها الشريف، وما بعد وفاتها ما يأتي:

  1. أنها ومنذ سنوات زواجها الأول قد اتخذت قرارها الرشيد بعشق أهل البيت وخدمتهم عليهم السلام، والمشاركة العملية في مجالس القراءة الحسينية منذ نعومة صباها على مصائب أهل البيت وبخاصة ما حلَّ من فجائع عليهم السلام بخاصة ما جرى عليهم في حادثة كربلاء الدامية، وكان لها مأتمها النسائي الخاص بمجالس القراءة الحسينية، كما قرأت كثيراً من مجالس القراءة الحسينية في مآتم عديدة بالنويدرات وخارجها.
    انظر تفاصيل مجملة عن سيرتها الذاتية، والنشأة التاريخية لـ”مأتمها” في كتاب مستقل، أعده حفيدها الشيخ حسن آل سعيد، بعنوان (عماد بيت هوى)، ص ٦ – ٨
  2. واشتغلت الملاية “أم حسين” كذلك بقراءة كتب المواليد في فترات مواليد وأعياد أهل البيت ومناسبات أفراحهم، وصدح صوتها الطاهر بقراءة “الجلوات والأهازيج” الدينية في أفْراح الناس وأعراسهم، ومناسباتهم.
  3. وكان لها رحمها الله دور إيجابي واضح، وفاعل في جمع نسوة النويدرات وغيرهن بمأتمها الحسيني الخاص بها، ومقرها ببيتها، وأضحى اليوم مؤسسة مسجلة في وثائق وسجلات إدارة الأوقاف الجعفرية، حيث كانت تقيم في هذا المأتم المبارك، وحسينيات وبيوتات مختلفة فعاليات دينية واجتماعية وثقافية، وما يزال بحمد الله بعد وفاتها “صرحاً إيمانياً وثقافياً واجتماعياً” يؤدي هذه الأدوار المهمَّة.
  4. وبعد وفاة خالها المرحوم الحاج حسن بن عبد الله بن الحاج علي بن سرحان وابنه المرحوم الحاج جعفر بن حسن جمعت ما أمكن جمعه من مخطوطاتهما واحتفظت بها في خزاناتها، وهي بلا شك مصادر تراثية لم يلتفت لأهميتها في تلك الفترة سوى قلائل من الناس، ومنهم من النساء الملاية “أم حسين”، وقد استفادت منها في مجالس القراءة الحسينية، وهيأت الفرصة لعدد من الباحثين في التاريخ الثقافي لقرية النويدرات للاستفادة من هذه الآثار بخاصة مخطوطات (الكتب والرسائل العلمية، والأدعية، وقصائد الشعر، واللطميات)، ومنهم يوسف مدن وأحمد عبد الله سرحان وغيرهم، وكانت رحمة الله عليها متعاونة إلى حد كبير مع جهودهم الكتابية، وساعدتهم على معرفة الدور الثقافي لبعض الخطاطين، وناسخي الكتب من أهالي النويدرات وأنشطتهم في هذا المجال خلال سنوات القرن الرابع عشر الهجري، وبسطت ما كان بحوزتها من مخطوطات تحت تصرفهم، فلها من القلب كل الشكر والعرفان.
    انظر دراسة يوسف مدن عن (حركة نسخ المخطوطات في النويدرات).

مصادر الترجمة:

  1. مخطوطة كتاب (مقتل الإمام الحسين) لابن مخنف لوط بن يحي بن سعيد مخنف الأزدي، وهي بخط الناسخ الملا والخطيب الحسيني الحاج حبيب بن يوسف آل الشيخ يوسف النويدري البحْراني، تاريخ نسخها سنة ١٣٢٧هـ.
  2. وثيقة مناسخة شرعية رسمية لتوزيع أسهم عقار (بيت) في قرية النويدرات على (ورثة المرحوم الحاج علي بن سند)، صادرة عن إدارة الأوقاف الجعفرية، تاريخها ١١ رجب سنة ١٤٣٧هـ / ١٩ من أبريل ٢٠١٦م.

شارك برأيك: