‎طفل أحيا أباه بقلم الأستاذ عبد الوهاب حسين

الأستاذ عبد الوهاب حسين
الأستاذ عبد الوهاب حسين

بقلم: الأستاذ عبد الوهاب حسين
29 نوفمبر 2007م
19 ذو القعدة 1428 هـ

في الصف السادس الابتدائي طفل متميز جدا، ‎يشع منه نور الإيمان ‎والتفوق ‎والثقافة والأخلاق ‎والأناقة ‎والجمال ‎والثقة الحسنة بالنفس، ‎فهو النجم المتألق دائما في الصف وخارجه، ‎وكثيرا ما يلجأ إليه المعلمون في الصف ‎لإلقاء المزيد من الضوء على بعض الأفكار وإجلائها، ‎ولتشجيع الطلبة على الثقافة والتفوق والمشاركة الصفية، إنه الطالب النجيب “أحمد فايز “.

في ذات يوم في الحصة الثالثة استعان به معلم التربية الإسلامية في تفسير سورة الإخلاص، وكان لافتا في ثقافته وقدرته على التفسير، فسأله المعلم الذي يعلمه لأول سنة، وهو من خارج المنطقة: من أين لك كل هذه الثقافة القرآنية يا أحمد؟
فأجاب: إن والدي يعمل مهندسا في شركة النفط، وكل يوم يجلس معي مرتين:
الأولى: في فترة العصر، بعد عودته من العمل، يسألني فيها عن أخبار المدرسة، ويراجع معي دروسي.
والثانية: بعد صلاة المغرب، يقوم فيها بإعطائي دروسا إسلامية.

فقال المعلم: شكرا لك ولأبيك المحترم، لو كان كل الآباء أو جلهم مثل أبيك في تحمل المسؤولية الاجتماعية والتربوية والدينية لتغير وجه التعليم، ولتغير وجه المجتمع والدولة، ولكنا بحق قادة العالم، وخير أمة أخرجت للناس، ولتغير موقعنا على خارطة الأحداث في العالم.

وفي أثناء الفسحة ذهب جلال إلى أحمد وقال له: إن والدك إنسان طيب ويهتم بك كثيرا، أما والدي: فهو غير ذلك، إنه يشرب الخمر ولا يؤدي الصلاة ويضرب والدتي، ولا يصرف على البيت، وليس لديه أي اهتمام بي أو بأمي، لهذا لا أستطيع أن أكون مثلك.

وضع أحمد يده اليمنى على الكتف الأيسر لجلال، وقال له في تأثر وتعاطف: إذا كنت ترغب في الدراسة معي، فسوف أطلب من والدي ذلك، وأظن أنه سوف يرحب بذلك، فوالدي إنسان طيب ويحب فعل الخير ومساعدة الآخرين، والدين عند أبي: (عقيدة وعمل) وهذا ما يوصيني به دائما، ويحذرني من جعل الدين مجرد كلام أو خطاب فارغ، لهذا سوف يرحب بوجودك معي في الدروس والمراجعة.
فحرك جلال رأسه للأعلى وللأسفل: أي نعم.

وبعد أن تلقى أحمد الدرس الديني من والده بعد صلاة المغرب، وكان موضوعه إخلاص إبراهيم (عليه السلام) في العبادة، فاتحه بقضية جلال فسأله الأب: ما تظن أن يكون ردي يا أحمد؟
فأجاب أحمد: الموافقة.
فسأله: ولماذا؟
فقال: أنت توصيني دائما بفعل الخير، ولم أجد انك خالفت في يوم من الأيام ما توصيني به.
ابتسم الأب وربت على كتف أحمد وقال: هذا جشمي فيك يا أحمد، أسأل الله عز وجل أن يبارك لنا فيك، وأن يجعلني وإياك من الصادقين الأخيار، أدعو جلال للحضور غدا في وقت المراجعة.

وفي اليوم الثاني: زف أحمد لجلال بشرى موافقة والده، وعقب بقوله: لم أكن أتوقع غير هذا يا جلال.
فرح جلال كثيراً لأنه سوف يصاحب أحمد، ثم يصبح مثله في تفوقه وإيمانه وثقافته وأخلاقه، وفي نفس اليوم في الساعة الرابعة والنصف عصرا، كان جلال في بيت أحمد وجالساً معه في غرفته، وكان والد أحمد قد رجع من العمل وأخذ قسطه من الراحة وحان وقت المراجعة، وكانت والدة أحمد قد أخبرت والده بقدوم جلال، فدخل فايز والد أحمد عليهما وهو مبتسم، فقام أحمد وصافح والده وقبل يده وفعل جلال مثل أحمد، ثم جلس الحاج فايز وجلس أحمد مع جلال، فرحب الحاج فايز بجلال وسعى لإشعاره بالاطمئنان وإبعاده عن الحرج، فلم يسأله عن والده وأسرته واكتفى بالقول: أنا مثل أبيك يا جلال، وأحمد مثل أخيك، وأنا سعيد بوجودك مع أحمد.

ثم سأل أحمد عن أخبار المدرسة وعن دروسه في ذلك اليوم، فأجابه ووجه نفس الأسئلة لجلال، فأجابه، وكان جلال مرتبكا في بادي الأمر وسريعا ما استعاد رباطة جأشه بتشجيع الحاج فايز، فانطلق في الإجابة على الأسئلة بسلاسة. ثم بدأ الحاج فايز بمراجعة الدروس مع جلال واحمد، فشرح لهما ما يحتاج إلى شرح وأجاب على أسئلتهما، وكان يربط دائما الدروس بالدين والأخلاق والحياة العامة.

وقبل أذان المغرب بنصف ساعة أنهى الحاج فايز المراجعة، وطلب من أحمد وجلال الراحة والاستعداد لصلاة المغرب، ليبدؤوا بعهدها الدرس الإسلامي. وقد ذهب الحاج فايز إلى المسجد لأداء صلاتي: المغرب والعشاء، وطلب من أحمد أداء الصلاة مع جلال في البيت، وعاد الحاج فايز من المسجد سريعا، وشرع مع أحمد وجلال في الدرس الإسلامي، ولم يتجاوز الدرس أكثر من (45: دقيقة)، ثم تناول الجميع وجبة العشاء التي أعدتها بكل الحب سلوى: أم أحمد، وقد تبادل الحاج فايز مع أحمد وجلال الأحاديث أثناء العشاء، وبعد الانتهاء انصرف جلال مسرورا إلى بيته، وكانت معنوياته تطال السماء علوا وهو يرفرف مع الملائكة في عالمها الطاهر، ويرى نفسه أنه قد بدأ عهدا جديدا في حياته، وكانت والدته تنتظره على أحر من الجمر، حيث كان ذهاب جلال إلى بيت أحمد، بعلمها وموافقتها ورضاها.

واستمر جلال مواظباً على الحضور مع احمد كل يوم ما عدا يومي: الخميس والجمعة، ولمدة عام تقريبا، انتقل فيها أحمد وجلال من الصف السادس الابتدائي إلى الصف الأول الإعدادي بتفوق. وكان الحاج فايز يعرف جيدا يوسف والد جلال، فهما أبناء عم وأصدقاء طفولة، وكانا متدينين وملازمان للمسجد والمأتم، وكانا معا على هذا الحال حتى نهاية المرحلة الثانوية حيث ذهب فايز بعدها لدراسة الهندسة في بريطانيا، وذهب يوسف لدراسة الاقتصاد في القاهرة، وهناك في القاهرة: حدثت تغيرات فكرية وسلوكية لدى يوسف، وأصبح له أصدقاء وصديقات من صنف آخر، واستمر على النهج المنحرف حتى انتهى من الدراسة الجامعية، ثم التحق بالعمل في أحد البنوك، وتزوج بعد التخرج بعامين من ابنة عمه سكينة، وأنجب منها جلال، ولم ينجبا غيره، فقد تكونت لدى يوسف مجموعة من الأصدقاء السيئين العاكفين على شرب الخمر وعمل الموبقات، وكان يقضي معهم جل وقته، وكانت الخلية الأولى من المجموعة قد تكونت أثناء دراسته الجامعية في القاهرة، وانعكست علاقته بهم سلبا على أوضاعه الأسرية والاجتماعية، فأخذت أم جلال حذرها وامتنعت عن الإنجاب بعد إنجابها لجلال. واعتبر الحاج فايز وجود جلال مع أحمد فرصة لتذكر الأيام الجملية التي قضاها مع ابن عمه وصديق طفولته يوسف، وللوفاء بحق النسب والصداقة القديمة، حيث كان يحن كثيرا لتلك الأيام ويتألم لحال ابن عمه وصديق طفولته يوسف، ويتمنى لو أنه يستطيع أن يعمل من أجله شيئا، لهذا أخلص كثيرا مع جلال فكان يعامله مثل ولده أحمد تماما، يحيطه بالرعاية والاهتمام ويغدق عليه بالعطف والحنان ويلبسه لباس الخير والنعمة، فكان يلبي له جميع حاجاته المادية ويشتري له جميع الأشياء التي يشتريها لولده أحمد، ويعطيه مصروفه اليومي بصورة دائمة، ويبعث معه بمصروف شهري لوالدته، فتحسن حال أسرة يوسف ببركة جميل الحاج فايز وإخلاصه ووفائه لابن عمه وصديق طفولته يوسف، إلا أن يوسف كان في حالة غيبوبة روحية واجتماعية فلم يلتفت إلى التحسن الطارئ على أحوال أسرته ولم يسألها عن سببه.

وحانت ساعة الصفر: فقد أدى جلال فريضتي: الظهر والعصر في غرفة الجلوس (المجلس) بعد عودته من المدرسة، وجلس على عادته للتعقيب بعد الصلاة وكان يقرأ دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لوالديه من الصحيفة السجادية، وكان باب المجلس إلى جوار مدخل البيت، وبينما كان مستغرقا في قراءة الدعاء عاد والده إلى البيت قبل وقت عودته المعتاد، وبمجرد أن فتح المدخل الرئيسي للبيت سمع صوت جلال من وراء باب المجلس وهو يقرأ الدعاء، فشده الصوت بنغمته الحزينة الباكية، فوقف في مكانه يستمع إلى جلال وهو يرسل كلماته بصوته الملائكي إلى ملكوت السماء بكل صفاء وإخلاص، وكان يقرأ الفقرات التالية من الدعاء: “وأجعل طاعتي لوالدي وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثر على هواي هواهما، وأقدم على رضاي رضاهما، واستكثر برهما بي وإن قل، واستقل بري بهما وإن كثر اللهم خفض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألن لهما عريكتي، وأعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقا، وعليهما شفيقا. اللهم اشكر لهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، وأحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري. اللهم وما مسهما مني من أذى، أو خلص إليهما عني من مكروه، أو ضاع قبلي لهما من حق، فاجعله حطة لذنوبهما، وعلوا في درجاتهما، وزيادة في حسناتهما، يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات. اللهم وما تعديا علي فيه من قول، أو أسرفا علي فيه من فعل، أو ضيعاه لي من حق، أو قصرا بي فيه من واجب، فقد وهبته لهما، وجدت به عليهما، ورغبت إليك في وضع تبعته عنهما، فإني لا أتهمهما على نفسي، ولا أستبطئهما في بري، ولا أكره ما تولياه من أمري يا رب، فهما أوجب حقا علي، وأقدم إحسانا إلي، وأعظم منة لدي، من أن أقاصهما بعدل، أو أجازيهما على مثل”.

فانكسر قلب الأب وأخذت الكلمات مأخذها من نفسه، فما صدر من القلب يصل إلى القلب، وتكون لديه شعور غريب، فقد عادت إليه ذكريات الماضي حين كان في مثل عمر جلال، وكان صوت جلال شجيا كصوته تماما.

لم يصبر يوسف أكثر، ففتح الباب بهدوء فتفاجأ به جلال، وانكفأ من مكانه خائفا، واستند إلى الجدار، وتوقع عاصفة من الكلام السيئ والتوبيخ العنيف، فسلوك والده كما يعرفه لا يخضع إلى العقل والمنطق، وإنما إلى المزاج المتقلب وسوء الخلق، إلا أنه وجد ما هو مخالف لذلك، فقد جثا الأب على ركبتيه أمام الولد، ووضع يديه على كتفيه وسأله: من علمك هذا يا جلال؟

أرتبك جلال كثيرا، وانحبس لسانه، فلم يستطع تحريكه، وحاول الكلام فلم يستطع، وبصعوبة بالغة قال: والد أحمد الحاج فايز.
فردد الأب وهو يشير بأصبع الإبهام: ابن عمك الحاج فايز؟! ابن عمك الحاج فايز؟!
فقال جلال: نعم.

فكان خروج أسم الحاج فايز على لسان جلال كالعاصفة التي فاجأت الأب على حين غرة، وقذفت به في بحر عميق من الذكريات، الذكريات التي يرى نفسه بأنه ابتعد عن شواطئها مسافة أميال، فلم يعد يراها، وحالت بينه وبينها السباع والهوام ولم يكن يعلم بأنها تقترب منه وهو في غفلة، وأن عاصفة سوف تأخذه على حين غرة لتقذف به في غمراتها، فتأخذه أمواجها ذات اليمين وذات الشمال وتغوص به في أعماقها ثم تخرجه بغير إرادته، حتى تكاد تنقطع أنفاسه.

فخرج من المجلس وهو غارق في الذكريات، ورأسه يدور بين الماضي النظيف والحاضر التعيس، وذهب مباشرة إلى غرفة نومه، وهو لا يشعر بخطواته ولا بالأرض التي كان يمشي عليها، وقد لبسه كابوس من الحزن والألم الفجيع، فلم يكلم زوجته ولم يسألها عن الغداء، وكانت عادته في كل يوم أنه يسألها عن الغداء ويصرخ عليها لأتفه الأسباب، وقد اختلط الأمر على جلال فلم يعرف حقيقة حال أبيه، أما الأم: فقد أحست بدخول الأب إلى المجلس، ثم إلى غرفة النوم، وقد استغربت من دخوله غرفة النوم مباشرة وعدم سؤاله لها عن الغداء، فشعرت بأن ثمة شيء غير طبيعي قد حدث له إلا أنها لم تستحسن الذهاب إليه لسؤاله، وانتظرت حتى انتهت من إعداد وجبة الغداء، ودعت جلال لتناول وجبة الغداء، ثم ذهبت إلى زوجها فوجدته جالسا على الكنبة وهو غارق في التفكير، وقد أسند رأسه إلى ظهر الكنبة ووضع يده اليمنى على جبينه، فقالت له بهدوء وقلق: أبو جلال، الغداء جاهز.
فرد عليها: لا أريد الغداء.
فسألته: لماذا؟
فقال: هذا يكفي.

فانصرفت، ولم تجرأ على تكرار الدعوة أو المزيد من الكلام وخرجت من عنده والقلق يساورها، وذهبت إلى جلال وكان جالسا إلى جانب المائدة ولم يتناول منها شيئا، وكان في حالة غير طبيعية، فسألته: ما الذي حدث يا جلال؟

فأخبرها بالذي حصل له مع والده، فقالت: نسأل الله الستر والعافية من البلاء.

وقد بقي يوسف لمدة ثلاثة أيام معتكفا في غرفة نومه، وقد طلب من زوجته أن تتركه لوحده ليلا ونهارا، ولم يستطع أحد أن يقطع عليه خلوته والتزم الصمت المحير طوال الأيام الثلاثة، ولم يعرف أحد ما يدور في خلده، وقد اكتفى بالقليل من الطعام، الذي كانت تأتي به زوجته إليه في غرفة نومه، ولم يذهب في الأيام الثلاثة إلى العمل، وعاشت زوجته القلق والحيرة ولم تجرأ على سؤاله لكي لا تفتح على نفسها باب الشيطان، ولكي لا تستعجل نشوب المعركة، ما دام هو قد اختار تأجيلها.

أما جلال: فقد توقف عن الذهاب لبيت الحاج فايز، ولم يجيب على أسئلة صديقه أحمد، وغطت وجهه مسحة من الحزن، مما حمل الحاج فايز على الظن بأن يوسف قد عرف عن علاقة أسرته به، فأحدث لها مشكلة لهذا السبب، إلا أنه قرر الانتظار وعدم الاستعجال حتى ينكشف الأمر لكي لا يضاعف باستعجاله من حجم المشكلة.

وفي عصر اليوم الرابع وكان يوم أربعاء، خرج يوسف من غرفة نومه وذهب إلى غرفة جلال، فساور الأم الخوف على ابنها ولم تعرف: إن كان عليها الدخول إليهما أم لا؟ فقررت البقاء خلف الباب، وتنتظر لتتصرف بحسب المستجدات.

تفاجأ جلال بدخول والده إلى غرفته، فانتصب واقفا ووقف متسمرا، وكان الاثنان مرهقان، إلا أن الأب كان أكثر إرهاقا، دنا الأب من الولد النجيب وطلب منه الجلوس، فاستجاب وجلس إلى جانبه على السرير.

مضت دقائق صمت انحبست فيها أنفاس جلال، ثم نطق الأب وسأل ابنه: كيف علمك الحاج فايز الدعاء؟
تلعثم جلال ولم يعرف كيف يجيب ومن أين يبدأ، فقال الأب: تكلم يا جلال ولا تخف.
فقال جلال: أحمد ولد الحاج فايز معي في الصف، وأنا منذ عام تقريبا أذهب للدراسة معه في بيتهم، والحاج فايز يقوم بمراجعة الدروس معنا، ثم يقوم بإعطائنا دروس إسلامية كل يوم.
فقال الأب: هل هذا هو كل شيء؟
سكت جلال، فقال الأب: تكلم.
فقال جلال: الحاج فايز يعطيني مصروفي كل يوم، ويشتري لي كل شيء يشتريه لولده أحمد.
فقال الأب وهو يشعر بالحياء من نفسه وبالشفقة على ابنه الوحيد: شكرا لك حاج فايز، لقد كنت ولا تزال معدنا أصيلا.

سمعت كلامه أم جلال فاطمأنت وقررت الدخول فلما دخلت: رفع يوسف لها رأسه ثم أطرقه إلى الأرض، ونظر إليها جلال وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والحيرة، فجلست ولم تتكلم لبضع دقائق، ثم قالت: خيراً يا أبا جلال!!
فقال: ماذا أقول يا سارة؟! لا يستوي الحي مع الميت، ولا الخبيث مع الطيب، لا أدري كيف أقابل هذا الرجل الشهم؟
فقالت: من؟
قال: الحاج فايز.
قالت: وعلى أي شيء؟
قال: ألا تعلمين؟
قالت: بأي شيء؟
قال: ألا تعلمين بما يفعله مع أبنك جلال؟
قالت: ماذا يفعل؟

أطرق يوسف برأسه إلى الأرض ولم يرد عليها الجواب، فقالت: وهل تعلم أنت يا أبا جلال؟
قال: ليس هذا وقت العتاب يا سارة، لم اعد احتمل المزيد من الألم، فلا تكوني علي قاسية.
قالت: لم أجد من قبل فرصة للعتاب معك يا يوسف.

لم يعلق على كلامها، فقالت: لقد نسيت يا يوسف بأن لك أسرة، ولك ابن ينتظر حنانك ورعايتك، لقد انغمست في لهوك وشهواتك وتركتهم للقدر يتربص بهم، لا تدري عنهم شيئا ولم تخش أن يعاقبك الله جل جلاله في أهلك لسوء عملك، ولا عتداءاتك على أعراض الناس في وقت يتربص به الذئب بالشاة، ولا يرحم فيه القوي الضعيف. ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى بنا والمخافة منه والصبر على الشدة لوجتنا في حال يسوء كل غيور. إلا أن الحياة يا يوسف لم تخلو من الأحرار الطيبين، ولو خليت لخربت، ولنزل العذاب على أهل الأرض، ومن هؤلاء الأحرار الطيبين الحاج فايز، الذي علم بأن لابن عمه وصديق طفولته أسرة في حالة ضياع فسعى لإنقاذها، وبسط لها جناح الرحمة والرعاية من عينه وقلبه ويده. إن جلال لم يقل لك كل شيء، إن الحاج فايز لم يكتفي بتعليم جلال وتوفير مصاريفه الخاصة، وإنما كان يقوم بالواجب الذي تخليت أنت عنه، وهو الصرف على عائلتك، لا لفقرك وإنما لسوء تصرفك ولفعلك المشين، إلى متى يا يوسف؟؟ إلى متى؟؟ ألم يحن الوقت لمغادرتك الأرض النحس ومعدن التعاسة والشقاء؟!

وأخذت في البكاء، فسالت دموعها في أودية العمر، لتجرف معها تلال الحزن والألم المتراكم لأكثر من (14 عام)، ورد على بكائها ببكاء مثله، أذاب الجليد المتراكم الذي جمد الحب القديم في قلبيهما، حيث كان كل منهما مسميا كزوج للآخر منذ طفولتهما على لسان أبويهما، وكانا يعيشان في بيتين متجاورين وكان الحب ينموا بينهما يوما بعد يوم، حتى حصل الزواج، وانكشفت الكارثة وتجمد الحب وساءت أحوال الأسرة المنكوبة.

وقال وهو يجفف دموعه: يا سارة: قاتلني الله إن لم أتوب، لقد غلبني هواي، واستزلني الشيطان، فخرجت من النور إلى الظلام، ومن السعادة إلى الشقاء، استغفر الله ربي وأتوب إليه. يا سارة: لقد أحيا جلال قلبي بدعائه، وكسره ببكائه، لقد نقلت الكلمات البكائية التي كان يدعو بها جلال، كل الألم من قلبه إلى قلبي، وشربت الكأس دفعة واحدة.

فقالت: هداك الله يا يوسف، وعافاك مما أنت فيه من البلاء، وأعادك إلينا بالعافية، فإنا في أمس الحاجة إليك.
فقال: كفى يا سارة، كفى، أتصلي بأم أحمد واستأذني لنا بزيارتهم يوم غد الخميس.

فاتصلت سارة بأم أحمد، وشرحت لها الجديد في حال يوسف، واستأذنتها بالزيارة، وأذن الحاج فايز، وفي صباح يوم الخميس، كانوا جميعا: يوسف وزوجته سارة وابنه جلال في بيت الحاج فايز، الذي استقبلهم بكل الحب والشوق، وتعانق الحاج فايز مع يوسف، حتى بللت دموع كل منهما معطف الآخر.

وبعد أن استقر المجلس بالجميع، قال يوسف: شكرا لك يا حاج فايز، لقد كنت كما كنت أعرفك، معدنا طيبا أصيلا ولا أعرف كيف أقابل إحسانك لعائلتي، حيث كنتُ في مرتع الشيطان.

فقال الحاج فايز: لم أفعل غير الواجب يا أخي، فإن للقرابة حق، وإن للصداقة القديمة بيننا حق، ومن لا يؤدي حقوق العباد، لا يمكنه أن يؤدي حقوق الإله، وإني لم أفعل غير الواجب.

فقال يوسف: هذا دليل طيبك ومعدنك الأصيل، وأعلم يا حاج فايز بأنك لم تنقذ أسرتي من الضياع فحسب، وإنما أنقذتني أنا أيضا من التعاسة والشقاء، وأعدتني للحياة بعد الموت، وللهداية بعد الضلال.

فقال الحاج فايز: الهداية من الله عز وجل الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأعلم يا أخي يوسف: بأن التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين، والتجرد للشر دون الرجوع عنه سجية الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر من حالة الآدميين. فالمتجرد للخير ملك مقرب، والمتجرد للشر شيطان رجيم، والرجوع من الشر إلى الخير من سجية الإنسان العاقل بفطرته السليمة. ولهذا تعتبر التوبة من الأصول المهمة في الإسلام التي تدعو كل إنسان مذنب إلى إصلاح نفسه، والخروج من دائرة الشيطان، والدخول إلى دائرة الرحمن، والتحلي بالصفات الإنسانية الكريمة، والعبور من ظلمات الضلال، إلى نور الهداية والإيمان، وجبران كسور الماضي بالنصح والاستغفار لكي يعيش الإنسان في أجواء السعادة والحياة الإنسانية الكريمة. قال الإمام السجاد (عليه السلام): ” إلهي أنت الذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك سميته التوبة، فقلت توبوا إلى الله توبة نصوحا، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحة “، والتائبون هم أحباء الله عز وجل، الذين أبلغهم منه في كتابه تحية وسلاما، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وأن الفضل في هدايتك بعد الله عز وجل، يعود إلى ابنك جلال، فهو السبب المباشر في ذلك، والحمد لله الذي هيأ جلال لهدايتك، وتسبب في عودة صداقتنا إلى سابق عهدها، في ظل الإيمان والطهارة والنور.

فقال يوسف: نعم، إن جلال هو بحق الطفل الذي أحيا أباه بعد الموت، وهداه إلى الصراط المستقيم بعد الضلال، وأعاده إلى الأرض الطيبة ومعدن النور والكرامة، والحمد لله رب العالمين.

شارك برأيك: