إبن معراج والمهمة الصعبة (2)

IMG_5622إعداد الأستاذ يوسف مدن

الجزء الأول مدخل لدراسة التراث الثقافي لقرية النويدرات
طالما أنَّ دراستنا التي بين يديك تدور حول السيرة الذاتية لأحد أبرز رجالات قريتنا النويدرات وأعيانها في القرن الرابع عشر الهجري المنصرم فإن الفرصة مؤاتية للتمهيد لها بالإشارة إلى أهمية دراسة التراث الثقافي والروحي والاجتماعي لهذه القرية وبخاصة في الفترة التي وجدنا فيها مدونات تؤرخ لبعض الأنشطة الثقافية التي كان مجتمعنا النويدري يحتاجها، فالتاريخ قبل وثيقة عام 1318ه لم يكتب، وهذه مجرد فرضية قابلة للتعديل، وقد تداوله الناس على ألسنتهم، وأشرنا إلى ذلك في بعض دراساتنا وأبحاثنا المنشورة وغير المنشورة.

إنَّ ثمة ارتباط حتمي، بل وإيجابي بين دراسة هذا التراث بمكوناته الثقافية ومدوناته المختلفة كالمخطوطات وبين كتابة السير الذاتية للرجال أو حتى الحديث عن هذه المكونات، وعن عدد من رجال القرية وأعيانها، فهؤلاء الرجال شاركوا بإمكانياتهم المتاحة آنذاك في تأسيس جوانب متعددة من هذا التراث، لهذا كان من الصعب على الباحثين دراسته بعيداً عن دراسة الشخصيات التي أسهمت في صناعته على مدار تاريخ امتد في سنوات القرن الرابع عشر الهجري ولا سيٍّما ما بعد عام 1318ه التي عثرنا فيها على أقدم وثيقة ثقافية في مخطوطات التاريخ الثقافي للقرية، ويحتمل أن يحتفظ البعض بمخطوطات مؤرخة بتاريخ أبعد من عام 1318من الهجرة النبوية الشريفة، ولكن يبقى ذلك مجرد فرضية لا نملك دليلاً قاطعاً عليها.

ونحن كباحثين متأخرين لم ندرك ذلك الزمان نسعى لاستثمار هذه الفرصة حين نقوم بدراسة تاريخ شخصية ما وسيرتها الذاتية من شخصيات القرية بكتابة مقدمة عن تراثنا الروحي والثقافي، وأملنا أن يتوسع هذا الجهد بدراسات يكتبها بعدنا مثقفو القرية إمَّا بدراسة السيرة الذاتية لأعيان القرية أو بدراسة عامة لظواهر محددة من حركتها الثقافية كدراسة ” حركة النساخين ” في قريتنا النويدرات أو دراسة حالات الشعر والخطابة والتعليم المنزلي، أو التعليم القرآني الكتاتيبي المعروف في تاريخنا الروحي والثقافي أو دراسة عمليات ((الشبيه)) لأحداث واقعة الطف التي كان يتم تمثيلها في زمن سابق على زماننا أو إبراز أنشطة علماء الدين في مجتمعنا النويدري في القرن المذكور حتى أيَّامنا الحاضرة، فالمجالان المذكوران يمنحان الباحثين فرص كتابة تاريخنا الثقافي.

تراثنا المخطوط مجال خصب للبحث والدراسات:
ما يزال التاريخ الثقافي لكثير من قرانا البحرانية ومنها قرية النويدرات ميداناً خصباً وبكراً للدراسات التاريخية في مجالات متعددة، فهذا التاريخ لم يدرس بعد، وهو بحاجة كي يكتب من جديد، فما دوَّنه بعض الباحثين عن تاريخ عدد من القرى ليس في حقيقته سوى دراسات محدودة لم تأخذ حظها من الأهمية والانتشار والتمكن العلمي، ولهذا فإنَّ تاريخ أغلب القرى البحرانية وبخاصة المتأخرة منها بحاجة لجهد الباحثين من أبنائها أولاً لدراسة تاريخها، ولدراسات تاريخية أخرى يقوم بها باحثون بحرانيون آخرون، وقد تحقق هذا نسبياً في عدد من الدراسات المستقلة المنشورة وغير المنشورة في كتب وفي مواقع إلكترونية، ولكن – كما تقدم قولنا – ما يزال جهداً محدوداً، ولهذا نرى أنَّ مجال دراسة تاريخ هذه القرى ميدان خصب للبحث والتنقيب وبخاصة جانبه الثقافي.

ونعتقد أن الجهود والأنشطة الثقافية المطلوبة لدراسة التاريخ الثقافي لقرية النويدرات يمر من خلال دراسة واستخدام مجموعة من المتغيرات والمؤشرات والأدلة والشواهد التاريخية كدراسة ما يمكن دراسته من المخطوطات التي تركها لنا المتقدمون السابقون علينا سواء من أهالي النويدرات أو من قرى أخرى شاركوا في صنع مظاهر الحركة الثقافية وعملياتها في قريتنا، ومن ذلك – على سبيل المثال – ما كتبه أو نسخه بعض العلماء والنساخين والشعراء من كتب ورسائل ثقافية مخطوطة وقصائد ولطميات وما دونوه في رسائلهم عن المواليد والجلوات وغيرها، وكذلك البحث عن التراث المطبوع الذي يتصل برجالات القرية في المجال الثقافي.

ومن ذلك أيضاً دراسة الأدوار الثقافية لبعض رجالات النويدرات وأعيانها وشخصياتها ومن ترك تأثيراته فيهم أو كانوا معهم في علاقات ثقافية كالعلامة الشيخ محمد بن سلمان بن عبد الله الستري البحراني وابنه العلامة الشيخ منصور بن محمد الستري والحاج أحمد بن معراج بن حسن والحاج حبيب بن يوسف بن الحاج أحمد بن الشيخ يوسف والحاج حسن بن عبد الله بن علي بن سرحان وغيرهم من الرجال المهتمين بالنشاط الثقافي في قرية النويدرات أو القرى المجاورة إبان القرن الرابع عشر الهجري أو وجدوا أنفسهم في أجوائه، وقد لحظنا في التراث الثقافي لهذه القرى إشارات مكتوبة ومحددة بتاريخ معيَّن في أحد الكتب المخطوطة كما في وثيقة 1318ه ووثائق ثقافية أخرى مؤرخى بتواريخ في سنوات القرن الرابع عشر الهجري.

وكتاريخ كل قرى البحرين الثقافي فإنَّ تاريخ النويدرات الثقافي – كما نعتقد – يتيح للباحثين من أهالي القرية أو من غيرها الاهتمام والعناية بالظاهرة الثقافية لدراسة موضوعاتها والتعرف على خصائصها الذاتية ومؤثراتها في توجيه حركة المجتمع النويدري في زمن سابق على وجودنا، فالبحث والتنقيب في الظاهرة الثقافية بالمجتمع النويدري ما يزال خصباً، حيث لم تظهر على السطح دراسة ما نؤسس عليها بحثنا هذا أو نستثمرها في التأسيس لتاريخ ثقافي مكتوب.

وقدرنا أن نبدأ في كتابة التاريخ الثقافي للنويدرات اعتماداً على جهود السابقين علينا من أفراد الجيل السابق وبخاصة نشاط الناسخين، كما أن موضوعات هذه الظاهرة غنية بمادتها الثقافية التاريخية، لذلك فإنَّه يمكن دراسة ظواهره الثقافية وغير الثقافية بجهود الباحثين طالما أن مصادر مادتها ما تزال موجودة، وليس علينا سوى البحث والتنقيب وإعادة صياغة المادة الثقافية، ولكن نتوجس خيفة وقلقاً أن تضيع مصادر هذا التراث فيطمسه الإهمال والنسيان.

ويمكن لأحد الباحثين أو أكثر دراسة الظواهر المختلفة للحركة الثقافية في النويدرات، ومنها على سبيل المثال دراسة ظاهرة النسخ والسيرة الذاتية للناسخين، ودراسة أدوارهم الثقافية، وكذلك يمكن دراسة حياة علماء الدين والنخب المثقفة في قرية النويدرات وأنشطتهم المختلفة آنذاك وبخاصة في المجالات الروحية والثقافية والاجتماعية، ويستطيع باحثون آخرون دراسة ظاهرة ” التعليم الكتاتيبي ” بالقرية ودراسة خصائصه وطرائق وأساليب التدريس المعتمدة، أو دراسة التعليم التعاوني في كتاتيب النويدرات، وهناك أكثر من فرصة لدراسة ظواهر أخرى كالخطابة الحسينية وحركة التأليف وجمع الشعر ونظمه والتمثيل أو مسرحة واقعة الطف التي كانت تتم في ساحة ” البرية ” بالقرية، وهي ساحة قريبة من المسجد الوسطي أو مسجد الشيخ أحمد كما يعرف اليوم.

وهكذا فإن حركة البحث والدراسات مفتوحة لدراسة التاريخ الثقافي لأية قرية بحرانية التي نشطت في القرن (14) الهجري أو قبله أو بعده، وكذلك دراسة ظاهرة ما يحظى فيها الشأن الثقافي بأهميته كحاله في قرية النويدرات بالرغم من أن تاريخ وجودها العمراني ليس بعيداً كبعض القرى أمثال عسكر وبوري والبلاد القديم وجد حفص التي تجاوزت في تاريخها العريق قروناً، وأن استكشاف تاريخها ومعرفة ظواهره الثقافية أمر شاق بالتأكيد، لكنه مصحوب بالتلذذ العقلي والشعور بالارتياح في تحقيق الانجاز الثقافي.

اتجاهات دراسة التراث الثقافي لقرية النويدرات:
قبل دراستنا لسيرة هذه الشخصية البارزة في مجتمعها النويدري، والمعروفة وطنياً في القرن الرابع عشر الهجري نود تحديد اتجاهات أساسية لدراسة التراث الثقافي لقرية النويدرات، فمن الوثائق والمصادر وأدبيات تراثنا الثقافي نستخلص في الوقت الراهن وجود اتجاهين أساسيين لدراسة التاريخ الثقافي للمجتمع النويدري، ونرى أنه يمكن للباحثين دراسة تراثنا الثقافي باتجاه يركز على الظاهرة الثقافية وعملياتها في عمومها، واتجاه ثانٍ يتحرك صوب دراسة الشخصيات التي لها علاقة بهذا التاريخ وما أنتجته في مجتمعها من تراث ثقافي بوجهيه الروحي والاجتماعي.

والاتجاهان الأوليان الأساسيان نشير إليهما في كلمات توضيحية عامة بالنحو التالي:
الاتجاه الأول ويدرس الحركة الثقافية في المجتمع النويدري وعناصرها وظواهرها العامة والفرعية والعوامل المؤثرة فيها صعوداً وهبوطاً، ويقوم هذا الاتجاه على استثمار الوثائق والأدبيات الثقافية ذات العمق التاريخي في قراءة التاريخ الثقافي والروحي والاجتماعي لقرية النويدرات خلال الفترة التي ابتدأت من عام 1318ه إلى زماننا الذي نعيشه الآن عام 1432ه وما بعده بالرغم من أن تاريخ النويدرات أبعد زمناً من عام 1318ه، فهذا الاتجاه يهتم بدراسة المادة الثقافية لتاريخنا الثقافي وأدبياتها والمخطوطات كعناية هذا الباحث أو ذاك بدراسة عملية ” النسخ الثقافي ” للكتب الخطية، أو دراسة واقع الشعراء والشعر وأشكاله الرثائي والاجتماعي والشعبي الدارج وغيرهما من الظواهر المعبرة عن واقع الحركة الثقافية في المجتمع النويدري خلال الفترة من 1318ه إلى 1432ه وما بعده، حيث عثرنا على أول وثيقة مكتوبة سنة 1318ه بخط العلامة الشيخ علي بن الشيخ عيسى بن عبد الله آل سليم المركوباني الستري البحراني، وهي محفوظة في المأتم البربوري بكتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام.

وأما الاتجاه الآخر فيتصل بالاتجاه الأول ويعبر عنه في نموه التصاعدي، حيث يركز هذا الاتجاه على دراسة تاريخ الشخصيات التي صنعت التاريخ الثقافي لقرية النويدرات، فهذه الشخصيات عاشت في فترة محددة من تاريخ القرية، أقصد النويدرات، واكتسبت هذه الشخصية صفاتها ومكوناتها بتجارب تراكمية، وقامت بأداء أدوار ثقافية من نسخ كتب وتعليم قرآني، وتدريب الصغار على القراءة الكتب، وتعلم طرائق أداء الجلوات أو المدائح بطابعها الروحي والترويحي وغيرها من أساليب التنمية الثقافية والوجدانية والاجتماعية السائدة آنذاك حتى زماننا اليوم، وذلك في حدود الظروف الصعبة التي واجهتها، ومع ذلك أسهمت هذه الشخصيات على تنوع إمكانياتها – وبقدر معيَّن – في المساهمة في تأسيس تاريخ مكتوب لقريتنا النويدرات في الفترة المذكورة التي أشرنا إليها.
وهناك اتجاه ثالث، وهو اتجاه مستقبلي لم يولد بعد، ولا وجود له الآن في حركة البحث التاريخي، ولكننا نستشرفه مستقبلاً، وهو مرتبط بالاتجاهين السابقين المتقدمين، حيث نتوقع بروز هذا الاتجاه الجديد لاحقاً والتركيز عليه من قبل بعض الباحثين بعد ظهور دراسات في إطار الاتجاهين السابقين، وهو كما نسميه اتجاه لفحص ودراسة الإنتاج الثقافي المستجد الذي اهتم بالتاريخ الثقافي للنويدرات ودراسة ظواهره ورجالاته، ونتوقع أن يكون مسار حركته الأولية إماََّ من خلال عمليات تقويم للمنتج الثقافي، ونقصد تقويم البحوث والدراسات والمقالات التي سوف تتناول التاريخ الثقافي للنويدرات في عمومياته أو البحوث التي ستهتم – كما نتوقع – بدراسة تاريخ الشخصيات الثقافية في مجتمع النويدرات وأدوارها الثقافية، أو يأخذ هذا الاتجاه بطريقة التوجيه للدراسات الداخلة ضمن الاتجاهين الأول والثاني، وفي كلتا الحالتين.. التقويم والتوجيه يهتم هذا الاتجاه المستقبلي المتوقع بتطوير جهود الباحثين السائرين فيه وفي الاتجاهين السابقين، ومن الطبيعي أن ينمو الاتجاه الثالث مستقبلياً لدى الباحثين بعد أن يكتبوا دراسات عن الظاهرة الثقافية في المجتمع النويدري أو عن الشخصيات المؤثرة فيها، وبالتالي فإن مهمته تقويم دراسات الباحثين وأبحاثهم في الاتجاهين الأول والثاني خلال الفترة التاريخية من تطور المجتمع النويدري من عام 1318ه إلى عام 1432ه وما بعده.

مصادر تراثنا الثقافي في القرية:
ثمة مصادر أساسية للتراث الثقافي للقرية البحرانية بوجه عام، لكنها كما هو ملحوظ تاريخياً تتفاوت في توافر هذا المصدر أو ذاك، فالقرى العريقة يختزن تراثها الثقافي المخطوطات والمطبوعات والمنقولات اللفظية الشفهية، أما القرى البحرانية المتأخرة في نشأتها التاريخية كالنويدرات والمعامير على سبيل المثال فقد يتوافر في تراثها الثقافي المخطوطات والمنقولات اللفظية وبعض الكتابات الموجودة كحواشي في الكتب المخطوطة.

أما المصادر المطبوعة فمعدومة تماماً أو قليلة أو مجهولة، وهذا ما ينطبق على النويدرات، فحظها من المخطوطات المتوافرة بين أيدينا قليل، ونصيبها في المطبوعات أقل في سنوات القرن الرابع عشر الهجري، ومساحة المنقولات اللفظية عن طريق المشافهة الاجتماعية أوسع، وتدريجياً أخذ رصيد القرية في المطبوعات بأشكالها المختلفة من كتب ورسائل ومنشورات وغيرها يتزايد على حساب تناقص المخطوطات التي أصبحت اليوم على وشك النهاية، ولم يبق منها سوى مخطوطات معدودة في أيدي الناس، وبعضهم يحجزها عن التداول والاستخدام حتى في حالة تأكدهم أنها توظف للاستخدام العلمي، وبذلك أصبحت المخطوطات تواجه محنة حقيقية، وجعلت تراثنا الثقافي يدخل معها في المحنة ذاتها، فالنساخون قل عددهم، وتوفى الله سبحانه وتعالى أغلبهم، وضعف آخرون عن الكتابة بخط اليد لأسباب متعددة كالمرض وغيره، وغلبتهم في أيامنا حركة المطبوعات الجديدة بنحو كاسح، وشحَّ البعض بما في أيديهم من مخطوطات.

محنة مخطوطات تراثنا الثقافي:
ونقصد بالمحنة هنا (غربة مخطوطاتنا الثقافية) عن الالتحام والتأثير في الأجيال الجديدة وضعف العلاقة بينهما بعد غياب مؤلفي ونساخي هذه المخطوطات منذ سنوات، حيث لم يعد لها أصداء فاعلة ومؤثرة إمَّا بتأثير عوامل داخلية منبثقة عن موقف سلبي من أبناء المجتمع أو بتأثير عوامل خارجية تستهدف هذه المخطوطات بالإلغاء والإقصاء التام.

إنَّ ما يواجه تراثنا الثقافي بأسره في البحرين يعبر عن محنة كأَْدَاء بإشكاليات صنعناها نحن قبل غيرنا، بل هذا حظه ببالغ الأسف في كثير من الدول التي تتشابه مع بلادنا في خصائصها الحضارية، فكل جوانب هذا التراث تجثم عليها إشكاليات تضعف من اتصالنا الفكري والروحي والوجداني بها عبر الزمان، ولكن ما يواجه المخطوطات الثقافية البحرانية هي المحنة الأبرز لأنَّ المظاهر الأخرى للتراث الاجتماعي يتم تناقلها بأقوال العامة حتى لو كانت مشوهة أو ناقصة، ومن خلال هذا التناقل اللفظي حيناً والسلوكي حيناً يتم التفاعل معها والتعبير عنها، أمَّا المخطوطات فشأنها أصعب بكثير، حيث تواجهها شبكة متداخلة من الصعاب التي تجعل تفاعلنا بها قليلاً، وربما نادراً، مما يجعل العلاقة بين هذه المخطوطات والباحثين ليست على ما يرام، ويمكننا الإشارة إلى أشكال المحنة التي تواجه مخطوطاتنا الثقافية، ومن ذلك:

  1. الإشكالية الأولى تبدو في أن المخطوطات تظل محفوظة حتى تبلى، وتبقى حبيسة في أقبية السجون لدى ” سجانيها ” فلا تنشر، بل عضُّ هؤلاء عليها بنواجذهم فلم تجد متنفساً للخروج من أقفاصهم، والأكثر صعوبة أنها حبيسة لا تقرأ من القابضين عليها، وإنما تترك رهينة محبسها، ومعزولة عن التفاعل مع الناس.
  2. وتظهر محنة المخطوطات كإشكالية ثانية في اتجاه بعض القابضين عليها لقراءة ما يرغبون منها، ولكن لا نجد بعد ذلك نشاطاً منهم يجعلها عملاً ثقافياً يستفاد منه جماهيرياً، فالذين وجدوا أنفسهم راغبين في قراءة بعض جوانبها) قد حفظوا بعض المخطوطات، ولكنهم بخلوا بما عرفوه من هذه المخطوطات كمادة تراثية، مما أضعف من قيمتها العلمية في حياة الناس وارتباطهم بها.
  3. وفي إشكالية ثالثة تأخذ محنة المخطوطات في تراثنا الثقافي البحراني شكلاُ صعباً، ولكنه كما نرى أهون الصعاب، فالمخطوطات – مع قيمتها الإنسانية بالنسبة إلينا وبخاصة ممن يبحث عن ذاته الحضارية والتاريخية – قد تجد من يسعى إلى جمعها والبحث عنها هواية أو لسبب آخر، ولكن لا تجد نفراً كبيراً من الباحثين مستعداً لتحقيقها ونشرها، وتوظيف مادتها المعرفية في حياة الناس عسى أن يكونوا على وعي بتاريخهم وبذاتهم الحضارية.
  4. ونجد في إشكالية رابعة محنة تواجه مخطوطاتنا أنها تُهْمَل لدى سجانيها دهراً من الزمان ثم يفرج عنها فجأة بعد طول معاناة، وبعد أن يتولد على الحافظين لجهلهم بها شيء من التقزز،ولكن تجد نفسها في ” سلاَّت القمامة وأكوامها ” لتدفن نهائياً دونما تشييع مهيب يشبه التشييع الذي وُدٍّع به أصحابها من مؤلفي هذه المخطوطات ومصنيفها، ومن حسن بعض هذه المخطوطات أن قيَّض لها بعض الباحثين الحريصين على تراث غيرهم وأمناء عليه فعثر على بعضها في ” القمامة ” في انتظار الدفان وركام الأتربة والأوساخ قبل عملية نقلها للحرق والإعدام النهائي، فأنقذها من هذا المصير الظالم المستخف بالعلم والمعرفة.
  5. وإذا نفض بعض الراغبين (وهم قلة) في اقتناء المخطوطات كسلهم، وشمروا سواعدهم لجمعها لم يستطيعوا إعطاءها حقها من العناية والاهتمام والرعاية بالتحقيق والنشر إلا قليل منهم نذروا أنفسهم لخدمة التراث الثقافي والعناية بالمخطوطات.
  6. وأشد صور المحنة التي تواجهها مخطوطاتنا التراثية يتمثل في وجود نفر من الناس يسعى إلى جمع المخطوطات لغرض خبيث، فإذا وجد مادتها الثقافية واسم صاحبها لا يناسب هواه وتكوينه الثقافي والنفسي والعقائدي أخفاها عن عمد وإصرار، أو أعدمها وأتلفها بخاصة إذا كان يملك النسخة الأصل أو أحدث فيها تحريفاً يغير من معاني كلماتها، وغاية هذه الفئة من الناس أن يخفوا كل أثر تاريخي بوجود أقوام آخرين، وأن يقطعوا عليهم صلتهم بتاريخهم حتى لا تجد الأجيال بعد تقادم الزمان إلاَّ وقد تم تجفيف ينابيع تراثها الثقافي.

شارك برأيك: