قراءة في أدب “الأستاذ إبراهيم حسين” بقلم مصطفى حسن عبد الله

مصطفى حسن عبد الله
مصطفى حسن عبد الله

البحرين تعرف جيدا الاستاذ ابراهيم حسين وبالذات قريته النويدرات التي تفخر به كأحد شمعاتها المضيئة حيث أفنى حياته في خدمة المجتمع البحريني فأسس وترأس بعض المؤسسات الدينية والخيرية، وأصبح رئيسا لبلدية المحافظة الوسطى حتى توفته المنية في عمر مبكر وفي عز عطاءه في عام ٢٠٠٦م عن ٤٦ عاما.

لم اكن اعرف ان الاستاذ اديب ايضا حتى وقعت بالصدفة على هذه المجموعة القصصية، وهي قصص قصيرة كتبت في تواريخ مختلفة منها ما يرجع الى التسعينات ومنها ما كتبه الاستاذ قبل وفاته بأيام قليلة. لذلك بدت لي القصص مهمة جدا، ليس لأنها قصص كتبها أحدالشخصيات الوطنية والعزيزة على قلوبنا، بل لأنها فعلا مقطوعات ادبية غاية في العمق والابهار، ولأنها وثيقة تحكي نمط حياة البحرينيين وبالذات اهل القرى في فترة التسعينات وبداية الالفين.

اخذتني الدهشة لما تحويه القصص من صدق وتساؤل وفلسفة وحب واهتمام بالأسرة والمجتمع والوطن، في هذا الكتاب تلوح لنا شخصية أ. ابراهيم حسين بكل ذلك القلق واللهفة على كل القضايا التي تجري من حوله.

قصة “أمنية طفل”

كتبت في ١٩٩٨م وتحكي قصة اسرة سعيدة ملؤها الحب، للتو عادت الاسرة بعد يوم جميل قضته شيماء ورائد ووالديهما في حديقة الالعاب حيث لعبة السيارات والبالونات والحلوى، اخذت شيماء الوانها واخذت ترسم اسرتها المبتهجة في بستان جميل، اخذت اللوحة وارتها ابيها، اخذت الاب سعادة غامرة وحنان كبير ما لبث ان تحول الى قلق، واخذته الافكار بعيدا، كيف اضمن مستقبل هذه الاسرة، اريد ان أقدم لهم كل ما استطيعه، هل يغيبني الاعتقال عنهم؟ هل يغيبني المرض او الموت عنهم؟ اريدهم ان يعيشوا في عزي ودلالي، ثم ماذا عن انشطتي الاجتماعية والخيرية، الا يجب ان اقلل منها كي اتفرغ لهم؟! تقطع شيماء افكاره وتسأله اين سرح.. ويعود الى حاضره الجميل.

لا بد ان للاستاذ ابراهيم عاطفة جياشة وقلب رؤوف حتى يكتب هذه القصة، هذا الشعور والقلق على المستقبل والمصير الذي ظل يؤرقه، و استمرت هذه العاطفة لتسطر قصصا تطرح قضايا الاسر والمجتمع والوطن والنفس، فكان يتألم للفقير والمقعد والمريض والعجوز، ويناصر المرأة والشباب ويطرح مشاكل المجتمع والوطن والقضايا العربية.

انها البحرين، وفي بيئة القرى بالذات، وفي زمن التسعينات وبداية الالفين، في المجموعة القصصية نرى استحضارا كبيرا للطبيعة والورود والأشجار، ففي ذلك الزمن كانت لا تزال توجد غابات النخيل في كل مكان وكان تعلق الانسان بالبحر والبر الواسع والطبيعة أكثر بكثير من الآن، تلك الأيام الذي كان الناس يستقلون فيها الباص العمومي، او يطلبون من جارهم ان يوصلهم بسيارته لأنه ليس لديهم سيارة، نعم كانت البيئة مختلفة وكانت طبيعة الحياة مختلفة، ولكن ظلت نفسية الانسان البحريني والقروي موجودة ويمكننا ان نربط جسرا بيننا وبين ذاك الزمن عبر هذا الكتاب ، وهنا يقص علينا قصصا عائلية من واقع مجتمعنا:

في قصته “وصار الدم لبنا”

يقدم الكاتب مشهدا روائيا رائعا، حيث علي وفاطمة الزوجين الذي يحملان ذكريات جميلة وبشعة في ذات الوقت، ها هما في طريقهما للطبيب، يصلون الى محطة باص القرية وهناك تأخذهما الذكرى حينما كانا يحبان بعضهما منذ طفولتهما ولكن أصابع القدر أودت بحياة والدة علي في حادث دهس بشع قرب هذه المحطة، وعلي ظل يلقي مسؤولية وفاة والدته على فاطمة لان الام لم تلتفت للشاحنة التي دهستها بسبب فاطمة، فكيف ستنتهي فصول الذكريات المؤلمة يا ترى

“فاطمة والجدار”

فاطمة ذات السابعة والعشرين والتي لم تتزوج تصحو كل يوم لتعد افطار والديها وأخيها الاصغر، منذ أربع سنين وهي على هذا الحال حين اقعد والدتها المرض وارتضت فاطمة ان تتحمل مسؤولية هذا المنزل، لمحت رواية عن جنوب لبنان قرأتها منذ عشر سنين وتذكرت حين كانت ماتزال فتاة لديها اهتمامات خاصة بها وامال وطموحات، ولكن كل شيء تجمد الان، صار كل شيء لا يناسبها ما عدا اشغال الغسيل والطبخ، ولكن تبقى هناك احلام غائرة، ماهي تلك الاحلام وهل يمكن تحقيقها؟

“عندما يموت الصمت”

يتحدث الكاتب في هذه القصة عن قضايا اشد حرجا، بطل الرواية احمد ثلاثيني أعزب انطوى على نفسه وهجر الاصدقاء والجيران وعادى أقرب الناس له.. امه، كل ذلك لسبب غامض يتضح في نهاية القصة.

“كفر الفقر”

تدور القصة في المدرسة، فها هو المعلم ابو عبدالله يذهب الى المدرسة كعادته ليطل عليه (الفراش) الحاج محمد بعبوس وبسلبية دائمة، يشكي الحاج محمد للجميع فقره ومرضه ومرض زوجته، فيقول له احد المعلمين فلتحمد الله، فيرفض الحاج محمد ويعترض على قضاء الله، في حوار بهيج ممتع، ويبقى السؤال يؤرق ابو عبدالله: الى متى يبقى الفقير فقيرا؟!

“صفعة القهر”

انه السوق، حيث يضع الرجل العجوز بسطته من اجل كسب الرزق، لم يكد العجوز يلتقط انفاسه في البيع حتى جاء مفتش البلدية صارخا واجما كأحد الجبارين على الباعة حتى وصل الى العجوز وصفع العجوز فاسقطه في الارض، اعتذر العجوز للمفتش وتوسل له بأن يدعه لقاء ان لا يكرر فعلته، لم يهتز قلب احد لهذا الموقف سوى عدد قليل كانت ليلى بينهم حيث ذهبت لتعين العجوز في النهوض وتتبين منه قصته، فماذا يدعو رجل في الستين ان يكدح ويتحمل الذل غير ان يكد على بناته ويؤمن لهم لقمة العيش.

“قلق الفضول”

يتحدث الكاتب في هذه القصة عن هموم المؤسسات الخيرية والاجتماعية ايا كان نوعها، كان يوما طويلا قضاه في العمل ثلاثة من القائمين على مؤسسة ما، ويا لها من فوضى كل واحد منهم هو الربان، ولا يوجد شيء الا اختلفوا فيه، وفوق كل هذا التعب الذي يجري داخل المؤسسة، فخارج المؤسسة تكثر الاصوات التي تنتقد وتحاسب بغير علم، القصة اشبه بهموم مبثوثة.

“شكوى الوطن”

قصة وطنية رائعة، يصور فيها الكاتب نقاشا حادا بين مواطنين بحرينيين، فيكثر الخلاف وتعلو الأصوات، ويأتي شخص غريب يدعى “الحزين” ليحاول تهدئتهم والتخفيف من خلافهم، فيخبروه بأننا لسنا مختلفين كثيرا وكل هذه المظاهر مجرد كلام، فيصر عليهم بأن هذا الكلام قد يكون مدمرا في المستقبل وباعثا على شق صفوف المواطنين، فمن ياترى هذا “الحزين” وكيف ستنتهي القصة..

على الرغم من عمق الكتابات، الا ان القصص لم تفارق بيئة القرية ونمط الحياة الذي عايشه الناس في تلك السنين، من خلال هذا الكتاب نرجع لنطلع على أدبياتنا والتعابير التي نستخدمها وثقافتنا الدينية، على الرغم انه ليس كتابا توثيقيا الا انه يعبر بدقة وعمق عن حياة اهالي القرى ومشكلاتهم ومخاوفهم بكل صدق وصراحة دون تكلف او اخفاء لجوانب معينة.

الحديث مع النفس في قصتي “خيار التردد” و”بارقة أمل”

أنشأ الكاتب حوارا مع النفس، وهي اشبه بمعركة بين الشخص ونفسه وكأنهما شخصيتين متباينتين، ودائما تكون النفس اكثر حكمة وتعقلا وتحدد له الدواء فلا يتعظ الا قليلا، وهذا الأسلوب ذكي ومعبر لنوازع النفس، ففي “بارقة امل” يأخذنا الكاتب الى غرفة عامر الذي استيقظ مع اذان الفجر واخذ يراقب القرية من نافذته، ثم تأمل في ماضيه، كيف قضى طفولة من الشقاء ثم مراهقة اشقى حين اضطر للعمل كي يعول اسرته بعد وفاة ابيه، فلم يستطع اكمال دراسته الجامعية فكانت كل هواجسه كفيلة بأن يفتتح مجادلته مع نفسه، فيتسم عامر بالسلبية والاحباط في حين تصر النفس على الامل وبدأ اليوم بسعادة، اما في “خيار التردد” وهي نص ملغز كان الحديث عن تردد البطل وحيرته في أداء امر ما دون ان يحدثنا مباشرة عنه.

قصص أخرى

ويتبقى الكثير لنقرأه في هذا الكتاب، في قصة “زهو الأنا” ينتصر الكاتب للشباب، وفي “قصاصات لمياء” يسطر قصة رومنسية بامتياز، أما في “قذارة الاستبعاض” فيبث عواطفه وثناءه على المقاومة اللبنانية وما حققته ضد الصهاينة في سنة ٢٠٠٠م، وقصة “مبتورة الإصبع” يستحضر فيها كربلاء، أما “نخب عامر” فهي مهداة الى اسرته وهي مؤثرة جدا، و“بشائر النسيم الراحل” كانت تتحدث عن قضية تلوث المصانع في قرية المعامير، و“ذرافة الدمع” فتحكي قصة شاب مقعد.

آخر قصة قبل وفاته

في قصته الأخيرة “هل يصفر عشب العطاء” التي كتبها قبل أربعة أيام من وفاته يستبصر الأستاذ إبراهيم قرب منيته، يتحدث عن تلك الدوحة الخضراء حيث الأشجار والماء والحشائش، هناك يوجد عشب صغير قد اتم شوطا طويلا من العطاء، يقدم الخضرة للناس ويستأنس باقدام الأطفال الراكضة وهي تدهسه في سعادة وحبور، ولكن.. هاقد بدا يصفر هذا العشب، وهاهي الحجب تنقشع وبدأ يرى كل شيء، الماضي والآتي في لحظة واحدة، ويبدأ بالابتهال الى الله ان يرحمه ويغفر له وان يسافر الى قدسه الأقدس.

رحم الله الأستاذ إبراهيم وأسكنه فسيح جناته

شارك برأيك: