عظمة محمد صلى الله عليه وآله ( ٢ )
ولما تم تجهيز الجيش خرج النبي من المدينة المنورة تلقاء مكة في العشر الأولى من شهر رمضان بالإضافة إلى القبائل المتحالفة معه .
وكان ممن لقيه في الطريق ابن عمه وأخوه من الرضاعة ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب عبد الله المخزومي ، وقد خرجا من مكة قادمين الى المدينة ليعلنا اسلامهما .
( الجدير بالذكر أن ابو سفيان بن الحارث هذا كان من أشد إيذاءً وحربا على النبي والإسلام وكان شاعرًا يهجو النبي ، فقيل أن النبي أهدر دمه ) فاستأذنا على رسول الله فأعرض عنهما ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك ، فقال رسول الله لا حاجة لي بهما أمَّا ابن عمي فقد هتك عرضي ( يعني بذلك كان يهجوه ) وأما بن عمتي ( عبد الله المخزومي ) فهو الذي قال لي بمكة ما قال . ( يعني بذلك قوله مخاطبا للنبي : والله لا آمنتُ بك حتى تتخذ سُلَّمًا إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر ثم تأتي بصكٍّ وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك ) ، فأعادت أم سلمة عليه القول وكان عبد الله المخزومي أخا لها من أبيها : لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك يا رسول الله .
فقال ابن عمه ابو سفيان بن الحارث : والله ليأذن لي أو لآخذنَّ بيد ابني هذا ( وكان معه ابنه جعفر ) ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا ، فَرَقَّ لهما النبي ، فقال علي بن ابي طالب ( مخاطبًا أبا سفيان ابن الحارث : إئتِ من قبل وجهه فقل ما قال إخوة يوسف : تا الله لقد آثرك الله علينا ، فقال النبي لا تثريب عليكم اليوم .
فقال ابو سفيان بن الحارث
جملة أبيات معتذرا :
لَعمرُكَ إني يومَ أحملُ رايةً
لِتغلبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدٍ
للَكَالمدلجِ الحيرانِ أظلمَ ليلُهُ
فهذا أواني حين أُهدَى فأَهتدِي .
( معنى هذا الشعر أن الحارث يقول يوم كنت أحمل راية اللات يعني راية الأصنام والشرك يوم كنت أحملها كنت كالمدلج يعني كالذي يسير في الظلام حيران لا أعرف طريقي وجاءت هذه الساعة حيث تفضل علي رسول الله بالهداية فاهتديتُ )
انظر إلى رقة قلب رسول الله وسعة رحمته التي هي مظهر من مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى ، فهاهو يتناسى جراحاتِه ، و ما فُعل به ، وما قيل له من عظيم القول ، فيمدون يدهم إليه ، فيأخذهم بيده الرحيمة العطوفة ، ويسامحهم بكل لين ورحمة .
قال تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) 128- التوبة .٦
(ومضى النبي مع جيشه يحثون السير نحو مكة حتى إذا كان بالقرب منها )
إلتقى الركب بأبي سفيان ( ابو معاوية ) وكان قد أرسلته قريش لمتابعة أخبار محمد والمسلمين والتجسس عليهم ، فرآه العباس بن عبد المطلب فقال له : هذا محمد في عشرة آلاف فارس وإنه لمصبحكم ، فأَدرِكْه قبل أن يقتلك ، فجاء به إلى النبي ووقفا عند خيمته ، فطلب العباس منه إجارة أبا سفيان فأجابه النبي صلى الله عليه واله وقال له : فلْيبِتْ عندك حتى تغدوا به علينا إذا أصبحت ، وعند الصباح عرض عليه النبي أن يُسلِم وطلب منه أن يشهد بأن لا إله الا الله وأن محمد رسول الله .
فقال العباس لأبي سفيان : تشهد قبل أن تُقتل فتشهدأبو سفيان .
فقال النبي لعمه العباس اذهب به واحبسه عند منطقة حطيم حتى تمر به جنود الله فيراها ، فجعلت الكتائب والقبائل والرايات تمر بأبي سفيان ، وكلما مرت كتيبةٌ أو قبيلةٌ أو رايةٌ كبَّرَتْ ثلاثا بصوت مُجلجلٍ، و أبو سفيان يسأل عنها هذه كتيبة من ؟ والعباس يجيبه حتى اذا مرت الكتيبة التي فيها النبي وسط سوادٍشديدٍ وغبرةٍ من سنابك الخيل وجعل الناس يمرون وابو سفيان يسأل أَمَا مرَّ محمد ؟ والعباس يقول له : لا .
وفيما هما كذلك وإذا برسول الله قد أطلَّ عليهما وهو على ناقته القصوى ، فقال له العباس : هذا رسول الله في كتيبتهِ الخضراء ، فجعل ابو سفيان ينظر ويرتعد ، وكان في تلك الكتيبة المهاجرون والأنصار وكلهم منغمسون في الحديد لا يُرى منهم إلا العيون .
فقال ابو سفيان : مارأيت مثل هذه الكتيبة قط ، سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان ، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما يا أبا الفضل .
فقال له العباس : ويحك إنه ليس بملك وإنما النبوة .
ولما حاذاهما سعد بن أبي وقاص نادى يا ابا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ، اليوم أذلَّ الله قريشا
فوقف النبي وقال : يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزَّ الله قريشا ، وأرسل النبي عليا ليأخذ اللواءَ من سعد ويدخل به مكة .
وفي هذا اليوم نادى النبي صلى الله عليه وآله بنداء السلام والأمان فقال مخاطبا أهل مكة : من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن
وأمر العباس أبا سفيان أن يدخل مكة وقال له : ويحك أدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله ، فدخل أبو سفيان وأخذ ينادي : هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد ، وقد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن .
فقالت له زوجته هند بنت عتبة : قبحك الله من رسول قومٍ وأمسكت برأسه وقالت لهم اقتلوه .
وخرج الكثير من أهل مكة إلى جبل ذي طوى ينظرون إلى رسول الله وإلى تلك الحشود التي التفت حوله .
وأخذ بعضهم يقاوم جيش محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولكنهم انهزموا
ومن ضمن المنهزمين حماس بن قيس فجاء إلى بيته كالمدهوش من الخوف فأغلق عليه بابه ، فقالت له زوجته : أين الخادم الذي وعدتني به ؟ فقال لها : ويحكِ لقد جاءنا محمد بجيشٍ لا طاقة لأحدٍ عليه.
ودخل رسول الله مكة وهي يوم ذاك أكبر معقل من معاقل الشرك دخلها بتلك الحشود بحيث لو تصدر إيماءةٌ منه لجيشه الجرار حتى لا يجعل أحدا يمشي على أرضها . وقد خطط النبي على أن يدخل مكة من جهاتها الأربع ودخل علي بن أبي طالب عليه السلام باللواء من الجهة التي دخل منها النبي صلى الله عليه وآله .
وإلى اللقاء غدا حيث نكمل …
———————
السرد التاريخي : راجع سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني .