مختارات في شهر رمضان – وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ

أضواء على قوله تعالى :
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) 207 – البقرة

 سبب النزول :

روى ” الثعلبي ” مفسر أهل السنة المعروف في تفسيره أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد الهجرة إلى المدينة خلَّف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال له: اتشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك علي، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي بخ بخ من مثلك يا علي يباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي الآية.
ولهذا سميت هذه الليلة التاريخية  بليلة المبيت.( 1)

 

🔷 ومما يستلفت النظر أن البائع هو الإنسان، والمشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد أخرى أن ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى ( إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ ..) 111 التوبة
ولعله لهذا السبب كانت ( مِنَ ) في الآية مورد البحث تبعيضية ( ومن الناس ) ، يعني أن بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضا عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأما في الآية (111) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقا رأينا أن جميع المؤمنين قد دعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنة الخالدة ( 2 )

🔷 وفي الحقيقة أن هذه الآية من سورة البقرة تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة ( لها ) التي تتحدث عن المنافقين.
( في قوله تعالى : وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ( 204 ) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ( 205 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ( 206 )
( إذْ ) تقول هذه الآية : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ( 207 )
الطائفة السابقة التي (تحدثت )عنها الأيات السابقة للآية مورد البحث هي مجموعة من الأشخاص المعنادين والمغرورين والأنانيين الذين يحاولون أن يحققوا لهم بين المجتمع عزة وكرامة عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل .
أما هذه الطائفة الثانية ( والتي تعنيهم الآية مورد البحث ) فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزة ورفعة الإ بالله .
وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدين والدنيا ويستقيم شأن الحق والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام .( 3 )

🔷 و يقول صاحب تفسير الميزان :
قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله (الخ)، مقابلته مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله (الخ) يفيد أنَّ الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله : ( ومن الناس من يعجبك ) بيانٌ أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالاصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ( ومن الناس من يشري نفسه … ) بيانٌ أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما اراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلا بربه ولا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الانسانية، ويدر به ضرع الاسلام، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لولا رجالٌ هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجالٍ آخرين صفتهم ما ذُكِرَ من النفاق والإفساد لَتهدمتْ أركان الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لَبِنَةٌ على لَبِنَةٍ لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه ، كما قال تعالى : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) البقرة – 251، وقال تعالى : ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا  ) الحج – 40، وقال تعالى : ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) الانعام – 89 . فالفساد الطارئ على الدين والدنيا من قِبَلِ عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سدَّ ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها . ( 4 )

🔷ويحتمل أيضا في تفسير جملة
( والله رؤوف بالعباد ) وتناسبها مع بداية هذه الآية
أن المراد هو بيان هذه الحقيقة ( وهي ) :
أن وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده، إذ لو لم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد المضحين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لتهدمت أركان الدين والمجتمع، لكنَّ الله سبحانه بفضله ومنِّهِ يدفع بهؤلاء الصديقين الأولياء خطر أولئك الأعداء.
فعلى أي حال، فهذه الآية ومع الالتفات إلى سبب النزول المذكور آنفا ، ( فهي ) تعد أعظم الفضائل للإمام علي ( عليه السلام ) الواردة في أكثر المصادر الإسلامية . ( 5 ).
—————
١- راجع كتاب الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج 2 – ص 72 .
٢- راجع نفس المصدر .
٣- راجع نفس المصدر .
٤- راجع تفسير الميزان جزء 2 – ص 98 .
٥- راجع كتاب التفسير الأمثل ج 2 – ص 72 .

شارك برأيك: