مقدمة:
بعث الله الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين، وحدد دورهم الاجتماعي في عدد من الآيات القرآنية، نذكر منها:
• ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءايتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم، (البقرة: 129)،
• كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151: البقرة)،
• لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (آل عمران: 164)،
• هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، (الجمعة: 2).
وتتحدد هذه الأدوار في:
• نشر حقائق العلم والمعرفة، والإعلام عنها (يتلوا عليهم ءايتنا).
• تعليم الناس أمور الحياة والشريعة وأصول التعامل الاجتماعي.
• تهذيب النفوس، وتحصينها، وتنقيتها من الأمراض النفسية والاجتماعية.
وقد جهد الأنبياء والرسل، وأبلوا البلاء الأوفر في تأدية أدوارهم، والقيام بالمهمات الملقاة على عاتقهم، ولاقوا في ذلك أشد المعاناة من المتمردين على الفطرة، ومنهم من قتل، ومنهم من طرد ونفي من موطنه، ولكن النتيجة النهائية تكون لصالح الحق، وينتصر الفكر الحق والدعوة السامية.
ولنقف قليلا، متأملين بعضا من معاناة الرسل والأنبياء، وكيف واجه العتاة والمستكبرون، رسالات الأنبياء، بغطرسة واستهزاء ولا مبالاة.
• نوح (ع): “رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرار، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم، جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (نوح: 5، 6، 7).
• إبراهيم (ع): قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (الصافات : 97)، قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين ، (الأنبياء 68).
• موسى (ع): وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتولك فاخرج إني لك من الناصحين. فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين. (القصص:20، 21).
• شعيب (ع): قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (هود: 91).
• يحيى (ع): قُتِلَ بسبب بغية من بغايا زمانه، وهو السيد الحصور الذي آتاه الله الحكم صبيا، وكان قتله بتآمر رأس السلطة آنذاك.
• عيسى (ع): فلما أحس منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ( آل عمران: 52).
• محمد (ص): وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين (الأنفال:30)، ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذُنٌ، قل أُذُنُ خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (التوبة:61)، فلعلك باخع نفسك على ءاثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (الكهف: 6)، لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (الشعراء: 3).
وواجه الرسل والأنبياء قساوة المجتمعات، وعناد المستكبرين، ومؤامراتهم بشجاعة فائقة، وعزم ثابت، ونفس مطمئنة بنصر الله، وأثمرت تلك المعاناة القاسية انتصارا للمثل والقيم الإنسانية، وهزائم قاسية للطغاة والمستكبرين. وتلك آيات الله في ذلك واضحة وبينة.
ولكن مجتمعات الأرض، بما فيها من شياطين الإنس والجن، تأبى إلا أن تكون مكابرة لآيات الله، جاحدة لأنعمه، مفسدة في الأرض بعد إصلاحها، بفعل الغواية الشيطانية الذي نذر نفسه لهذه المهمة، ( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين ، الحجر: 39، 40)، (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، ص: 82، 83). وهكذا تعود المجتمعات أدراجها عاصية لله، ناكرة لآياته، جاحدة لأنعمه، مفسدة في الأرض.
ولكن الله جل علاه، تكفل بنصر المؤمنين، ووعد عباده الصالحين بالاستخلاف، فقال:
• “وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون”(النور: 55).
• ” ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون” (الأنبياء: 105).
وهذا الوعد الإلهي جارٍ في كل زمان ومكان، وسنةٌ من سنن الكون التي لا تتغير ولا تتبدل. فمع العسر يأتي اليسر، ومع الشدة ينبلج الفرج، ومع اشتداد القهر والظلم تبزغ شمس الحرية والعدالة.
ولقد بشَّر الأنبياء بهذا النصر الإلهي، وبشَّر به نبينا محمد (ص)، وأكدته الروايات المتواترة عن المعصومين من ذرية النبي محمد (عليه وعليهم صلوات الله)، مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، بأن الأرض ستملأ قسطا وعدلا بعد ملئت ظلما وجورا على يد قائم عدل من آل محمد. وكنماذج من تلك الأحاديث والروايات، نورد الآتي: (راجع في ذلك سنن أبوداوود، والترمذي، وغيرهم من أصحاب الصحاح).
• عن ابن مسعود، عن النبي أنه قال: ” لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني، أو من أهل بيتي، يفوز باسمي ولقبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا”.
• قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة: حدثنا عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي قال: “لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي”.
• روى الإمام أحمد عن علي مرفوعا بلفظ: لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا”.
• عن علي (ع): قال رسول الله: ” المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة”.
• عن أبي سعيد الخدري قال: المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، ويملك سبع سنين”.
• عن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة”.
ورويت تلك الأحاديث عن كثير من كبار الصحابة، أمثال: الإمام علي بن أبي طالب، والحسين بن علي، وأم سلمة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وغيرهم. ودونها أكابر علماء أهل السنة، فضلا عن علماء الشيعة، وزخرت كتب الأحاديث بها، ومن أولئك، الإمام أحمد بن حنبل، والترمذي، وأبو داوود، والألباني، وغيرهم.
وفي هذه الورقة، نطرح مجموعة من الأسئلة ذات صلة بموضوع الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، ونحاول أن نجيب عنها بقدر ما ييسر الله لنا من فيضه، ويهدينا إليه، وتلك الأسئلة هي:
1. ما هو الدور التربوي الذي تؤديه عقيدة انتظار الإمام المهدي (ع) على المستويين الفردي والاجتماعي؟
2. كيف تثبت عقيدة الانتظار بالإمام المهدي (ع) وسط أعاصير المتغيرات الهائلة، في الأنظمة المعرفية، والثقافية، والاجتماعية؟
3. ما هو دور المجتمع المؤمن في المحافظة على عقيدة الانتظار بالمهدي وتفعيلها على المستويين الفردي والمجتمعي؟
وفيما يلي محاولة منا للإجابة عن تلك الأسئلة:
أولا: للإجابة عن السؤال الأول: ما هو الدور التربوي الذي تؤديه عقيدة انتظار الإمام المهدي (ع) على المستويين الفردي والاجتماعي؟ نختصرها في مجموعة من النقاط هي:
النقطة الأولى: مأزق التربية: أخطار وتحديات تحوط النشئ:
ربما يكون العنوان أعلاه (مأزق التربية، أخطار وتحديات تحوط النشء)، عنوانا صالحا لعدد من المحاضرات، ومجالا جيدا للكثير من البحوث التربوية. لكنني في هذه الورقة المختصرة، لا أجد سبيلا للتوسع في هذا العنوان،وسأكتفي فيه بعرض مجموعة من الأخطار والتحديات التي تواجهها التربية في الوقت الراهن، مركزا على آثارها الاجتماعية والقيمية، على المستويين الفردي والاجتماعي، محاولا ربط الحديث عنها، بالعنوان العام للورقة (المهدي المنتظر (ع) رؤية تربوية).
وليس من قبيل المبالغة، القول بأننا نشهد انحدارا واسعا وانتكاسة كبيرة في القيم والأخلاق، وهذا الانحدار الأخلاقي غير مقصور على المجتمعات التي تبتعد عن دائرة الإيمان، ولكنه مشاهد بوضوح في المجتمعات المؤمنة الموحدة لله المواظبة على الصلاة والصوم والحج وكل أعمال الخير. ومظاهر ذلك واضحة للعيان لا تحتاج إلى شواهد وإثبات. وكأمثلة على ذلك، هذه الحروب القذرة التي تشن في بلاد المسلمين بأيدي من يزعمون أنهم حماة الإسلام، وهي حروب بشعة مدمرة مهلكة للحرث والنسل، لا يسلم منها أحد . وأقذر ما فيها أنها تجري باسم الدين ، وتنتهك الدين ، ولا تراعي للإنسان حرمة ولا عهدا . ويؤجج هذه الحروب ويشارك فيها من يفترض فيهم أن يكونوا القدوة الصالحة والمثل الأعلى للإنسانية. كما أن الانتكاسة العميقة في العلاقات الدولية، وإخضاع القرار الدولي للمصالح الاقتصادية، جعل الدول الغنية صاحبة القرار الدولي الذي يصنف المظلوم من الظالم والباغي والمعتدي من المعتدى عليه.
النقطة الثانية: عقيدة الانتظار، وآثارها التربوية والنفسية: وفيها نطرح مجموعة من النقاط الفرعية كالتالي:
1. العقيدة المهدوية دين نتعبد به:
تنبثق عقيدتنا في الإمام المهدي (عجل)، من الدين الذي نؤمن به، ونتعبد لله وفق تعاليمه وإرشاداته. وقد قبلنا من هذا الدين كثيرا من الأنباء والأخبار والمعلومات، واعتبرناها حقائق ثابتة لا جدال فيها، وكثير منها غيبيات، بعضها يقص سيرا وتاريخا وأحداثا في حدود الزمان والمكان، وأحيانا تتجاوز الحوادث الزمان والمكان، كما هو في حادثة الإسراء والمعراج، وبعض تلك الحقائق التي نسلم بها، تتجاوز حدود الزمان والمكان إلى ما بعد الموت، والبعث، والنشور، والحساب، والجنة والنار، والخلود الأبدي في دار الآخرة. وقد امتدح الله المؤمنيين “الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.وبالآخرة هم يوقنون” (البقرة: 3، 4).
ومرجعيتنا الأولى في هذه العقيدة، القرآن الكريم الذي آمنا بأنه قول الله تعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأمنا بكل ما فيه من غيبيات وحقائق تغيب عن إدراك عقولنا، امتثالا لقوله: “والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزَّل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم” (محمد: 2)، وقوله: “قل أطيعوا الله والرسول، فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين” (آل عمران:32)، وقوله: “وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر: 7)، وغير ذلك من الآيات القرآنية الشريفة التي تأمرنا بطاعة الرسول والتسليم بما يرد عنه.
ومرجعيتنا الثانية فيها: السنة الصحيحة المطهرة للنبي محمد (ص)، وسنة خلفائه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وقد جاءتنا هذه السُّنَّةُ منقحة من قبل علماء ومجتهدين ثقاة نذروا أنفسهم لخدمة الدين الذي نؤمن به. وفي هذه السُّنَّةِ إخبار بالمهدي المنتظر (عجل) بما أشارت إليه الأحاديث الشريفة المتوترة عن النبي (ص)، ورواها العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، وقد ذكرنا بعضها أعلاه، بالإضافة إلى ما وردنا من أقوال وأحاديث عن المعصومين من الأئمة الراشدين (ع).
والعقيدة المهدوية وعد الله لرسله، ونتيجة منطقية لمجريات الأحداث، فقد جرت سنن التاريخ باستدامة الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والنور والظلام، وفي أغلب الأوقات ينتصر الشر والباطل والظلام على الخير والحق والنور، ثم يأتي النصر المؤزر من الله فتنقلب المعادلة، ويسود الحق، وينتشر الخير والنور. وينشئ هذا الصراع المستدام طبقات اجتماعية متعددة، أبرزها: طبقة المستكبرين التي تقود الشر والباطل والظلام، وطبقة المستضعفين التي لا تجد لها حولا ولا قوة في مواجهة المستكبرين، فتضعف، وتنقاد، وتستسلم، وتكون أداة طيعة في يد المستكبرين، أو تتوارى عن الأنظار وتعيش على هامش الحياة. وبين هاتين الطبقتين تبرز طبقة المؤمنين أنصار الحق والخير والنور الذين يحملون على عاتقهم مجابهة الشر والباطل والظلام. ويعزز الإيمان المنبثق من الفطرة الإنسانية، والوعد الإلهي بالنصر، ثبات طبقة المؤمنين في صراعهم مع المستكبرين ومناصريهم.
وهكذا انتصر نوح (ع) على المستهزئين، وتحقق الوعد الإلهي له “إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم بعد حين” (هود:38) ، وانتصر إبراهيم (ع) على نمروذ عصره الذي حكم قضاؤه بحرقه “قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (الأنبياء: 68، 69، 70، 71). وانتصر موسى على فرعون بنصر من الله، على فرعون الذي علا في الأرض واستكبر فقال “أنا ربكم الأعلى” (النازعات:24)،حين أراد أن يستفز المؤمنين “فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا” (الإسراء: 103). وفي كل مسيرة تاريخ الصراع، تكون النتيجة النهائية انتصار المؤمنين، “حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين” (يوسف: 110).
وهذا النصر الإلهي نتيجة منطقية وحتمية تقتضيها طبيعة الصراع بين الحق والياطل، والخير والشر، والنور والظلام. فالباطل زيف سرعان ما تنكشف حقيقته، والشر عدوان على الفطرة الإنسانية واخترام للكرامة الإنسانية ينقشع حال أول انتصار للخير حين تدرك طبقة المستضعفين حقيقة وضعها، وتتحرر من ربقة الخوف والاستعباد، وتملك حريتها وإرادتها، وسرعان ما تنقشع الظلمة ببزوغ النور الذي يجلي كلحتها ويجعل الحقيقة ساطعة بينة.
2. العقيدة المهدوية أمان لأهل الأرض ووقاء لهم من الهلكة:
تمنح عقيدة الانتظار في المهدي المُخلِّص والمنقذ، الجماعات والأفراد المؤمنين بها الأمل الإيجابي، والطأنينة النفسية، وتبعد عنهم اليأس والإحباط، وتجعلهم متهيئين مترقبين، ينظرون إلى القضايا والأحداث بنظرة الفاعل المتهيئ. وإن الدعاء الذي يكرره المؤمنون دائما في دعاء العهد: “اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهدا وعقدا وبيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبدا، اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه والممتلين لأوامره والمحامين عنه والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه”. وينتج هذا الدعاء، سلوكا على المستويين الفردي والاجتماعي يتسم بالآتي:
• الانقياد للقدوة الصالحة التي هي المثل الأعلى للسلوك الإنساني، والاقتداء بها، وهذا الانقياد والاقتداء يورث الطمأنينة ويحقق الرضا النفسي، حيث يشعر المؤمن أن سلوكه وتصرفه في هذه الحياة له مرجعية صالحة مرضية عند الله. وقد ورد في الحديث عن النبي (ص): “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، وبنص آخر “من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية”. واختلافنا مع الآخرين الذين لا يؤمنون بالعقيدة المهدوية، أنهم يجعلون البيعة لأي شخص تراضى غالبية الناس عليه، حتى ولو تحقق هذا الرضا بالقهر والغلبة، أما العقيدة المهدوية فترى أن هذه البيعة لا تصح إلا لإمام عدل مفترض الطاعة.
• الاستعداد التام لساعة الظهور، التي تتطلب نخبة إيمانية قوية وقفت نفسها لله، وغاية أمنياتها الحظوة بأن تكون من أتباع ذلك القائد، ونيل الشهادة بين يديه. ويتطلب ذلك توافرمؤهلات نفسية وعقائدية في هؤلاء الأتباع، فصلها لهم القائد المنتظر في كثير من أدعيته وتعاليمه ووصاياه، مما ورد في كثير من الكتب مثل: بحار الأنوار للمجلسي، والمصباح للكفعمي، ومهج الدعوات لابن طاووس، والاحتجاج للطبرسي، وغيرها. ونقتبس من ذلك بعضا منها في الآتي: ” اللهم… وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة…”، “إلهي عظم البلاء، وبرح الخفاء، وانكشف الغطاء، وانقطع الرجاء، وضاقت الأرض، ومنعت السماء، وأنت المستعان، وإليك المشتكى، وعليك المعول في الشدة والرخاء” ، ” ومن أكل من أموالنا شيئا فإنما يأكل في بطنه نارا وسيصلى سعيرا” ، ” فليعمل كل امرئ منكم ما يقرب به من محبتنا ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا” ، ” اللهم ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النية، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدد ألستنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة”. وتبرز تلك الكلمات السلوك المثالي للأتباع، كما يريدها فيهم القائد المنتظر، وعليهم أن يتهيؤوا ويستعدوا لنصرته باكتسابهم تلك الأخلاق والصفات، ومن أبرزها:
3. الانتفاع بالإمام الغائب خلال فترة غيبته:
ودفعا لكثير من الإشكالات التي يثيرها المشككون في العقدية المهدوية المتمثلة في السؤال الآتي: كيف ينتفع بإمام غائب؟ نكرر ما ذكرناه في الفقرة السابقة لبعضفوائد العقيدة المهدوية المتمثلة في: الانقياد للقدوة الصالحة، و الاستعداد لساعة الظهور التي تعني العمل على بناء الشخصية المؤمنة، والمجتمع المؤمن الذي تطابق مواصفاته صفات أنصار الإمام. ونضيف إلى ذلك بعض النقاط ذات العلاقة بذلك الإشكال، وهي:
• إن السؤال المثار حول فائدة الانتظار، وكيف ينتفع من الإمام الغائب قديم، أثير قبل ولادة الإمام المهدي بسنين طويلة. وهو دليل على أن فكرة الانتظار وغيبة الإمام كانت حاضرة إبان الفترة التي كانت تعد للتهيئة بقبول عقيدة الإمام المنتظر. وتمتد تلك الفترة من عصر النبي (ص) (السنوات العشر الأولى للهجرة)، وعصر الأئمة ابتداء من الإمام علي بن أبي طالب (ع)، مرورا بعصر الإمامين الباقر والصادق (ع)،إلى عصر الإمامين العسكريين (ع)، وتتجاوز المائتين من السنين. وكان السؤال المذكور حاضرا في أذهان الناس، ومثارا في أوساط النخب العلمية والفكرية. وتعبر عن ذلك، الرواية المشهورة التي رواها الحمويني بسنده عن سليمان بن مهران الأعمش عن الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام، قال: «نحن أئمة المسلمين وحجج اللَّه على العالمين وسادة المؤمنين، وقادة الغرّ المحجلين وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك اللَّه السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث وينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها. ثم قال: ولم تخل الأرض منذ خلق اللَّه آدم من حجة للَّه فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو الى أن تقوم الساعة من حجة للَّه فيها، ولو لا ذلك لم يعبد اللَّه. فقال سليمان: فقلت للصادق عليه السّلام فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب». وتبرز هذه الرواية أن احتياج الناس إلى وجود الإمام القدوة، نبيا كان أم إماما، ظاهرا أو مستترا، هو أمر ضروري ولازم لما يتطلبه ذلك من إتمام الحجة على الناس، ولزوم هدايتهم وإرشادهم، وأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهرة أو مستترة. وأن وجود هذه الحجة الظاهرة أو المستترة يعطي أمانا للناس من حلول العذاب والنقمة الإلهية العاجلة، وقد أشار الله إلى ذلك في الآية: “وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون” . (الأنفال :33 ) . فالعذاب يُدرأُ عن المجتمعات بواسطة الاستغفار، وبوجود النبي الهادي، وخليفته المعصوم.
• أن الوظائف الرئيسة التي يقوم بها الحجة على الأرض، والتي أشرنا إليها من قبل المتمثلة في نشر حقائق العلم والمعرفة، والإعلام عنها، وتعليم الناس أمور الحياة والشريعة وأصول التعامل الاجتماعي، وتهذيب النفوس، وتحصينها، وتنقيتها من الأمراض النفسية والاجتماعية، هي ممكنة حتى في حال استتار الحجة. وقد حصل ذلك على الواقع العملي إبان إمامة الإمامين الهادي والعسكري اللذين كانا يمهدان عمليا للغيبة، باسستتارهما عن عامة الناس، وظهورهما فقط لخاصة الخاصة من أتباعهما. كما أن استتار الإمام المهدي قد مر بمرحلتين، الغيبة الصغرى، التي كان للإمام فيها وكلاء معينون معروفون، واستمرت تلك لنحو ثمانين سنة (من أربعة إلى خمسة أجيال )، وبعدها الغيبة الكبرى التي أوكل الإمام الأمور إلى الفقهاء العاملين في وصيته المشهورة التي وردت من خلال الإجابة عن مجموعة من المسائل التي أشكلت على أحد الفقهاء:” … وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله…..” ). وبالتالي فقد انتقل الدور إلى جهة رواة حديث أهل البيت وعلومهم، وهم الفقهاءالعاملون الملتزمون، وأصبحت المسؤولية عليهم في تأدية الوظائف المشار إليها أعلاه.
• أن واسطة هؤلاء الفقهاء المعينين كوكلاء للإمام الحجةالمنتظر، مع موكلهم غير منقطعة، وهي علاقة فكرية عقائدية تتبنى منهجا واحدا هو نفس المنهج الذي يتبناه الإمام الحجة، وهو ذات المنهج الذي تبناهالأنبياء والمرسلون، وسار عليها سائر الأوصياء.ولهذا أكدت الوصية على اتباع الفقهاء الملتزمين بنفس المنهج (رواة حيثنا )، ولم تعط ذلك لعموم الفقهاء والمتبحرين في العلم، ممن يتبنون مناهج فكرية واستدلالية مختلفة. وهؤلاء الفقهاء الحجج بالواسطة، علماء فقهاء يسيرون في نفس النهج، ولا يلوون عنه. ومن المنهج ذاته، بطرقه الفكرية والاستدلالية، يأتي الفيض الإلهي المتمثل في استخلاص الحكم الشرعي واستنباطه في القضايا المستجدة والأمور الحادثة، أما الأحكام الثابتة فهي غير متغيرة.
ثانيا: وللإجابة عن السؤال الثاني: كيف تثبت عقيدة الانتظار بالإمام المهدي (ع) وسط أعاصير المتغيرات الهائلة، في الأنظمة المعرفية، والثقافية، والاجتماعية؟ نورد النقاط التالية:
النقطة الأولى: سبقت الإشارة إلى أن عقيدة الانتظار هي دين نتعبد به لله، ومصدرها كتاب الله، وسنة نبيه والأوصياء من أهل بيته. وأمام العقيدة الدينية تتهاوى كل الحجج، وتخمد الأعاصير. كما سبقت الإشارة إلى بعض المتغيرات الاجتماعية، وخصوصا في مجال التنشئة القيمية والأخلاقية، بسبب ما نشهده من ثورات هائلة في حقول الاتصال والتواصل التي سهل فيها نشر الشائعات، واختراق العقول، وحرف الوجدان، والانحطاط الأخلاقي الشنيع لدرجة غير مسبوقة من قبل. ونضيف هنا إلى ذلك، ثلاثة عوامل أخرى لها تأثيرها الكبير في تدمير المعتقدات، ومنها عقيدة الانتظار، وتلك العوامل هي:
• الصراع العقائدي بين أصحاب الديانات والمعتقدات المختلفة الذي كان، ولا يزال مستمرا، وهو على أشده الآن، وتغذي هذا الصراع مؤسسات عالمية متمكنة قادرة على الولوج في ثنايا المعتقدات الخاصة وحرفها كالصهيونية والماسونية وغيرهما. وفي زمان الأئمة وتابعيهم كان هناك ما عرف بالزنادقة الذين حاولوا بث الأفكار المنحرفة وإثارة الشبهات، واستطاعت كثير من رواياتهم وأفكارهم النفاذ إلى الفكر والتراث الإسلامي، مخلفة كثيرا من الأساطير التي باتت تعرف اليوم بالإسرائيليات. وكانت تستهدف بالدرجة الأولى التشكيك في المعتقدات عن طريق بث الروايات الكاذبة، وإثارة الشبهات. فتصدى لهم الأئمة والعلماء المخلصون دافعين لشبهاتهم، مفندين لرواياتهم. وفي عصرنا الحديث، برز المستشرقون وركزوا جهودهم على إثارة الشبهات حول المعتقدات الإسلامية، ومنها العقيدة المهدوية، وتابعهم في هذا السبيل كثير من الكتاب المسلمين، فتصدى لهم العلماء من مدرسة أهل البيت داحضين لأفكارهم بالحجج العلمية المقنعة. ويكفي أن يطلع المؤمن على ما دونه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض)، بعنوان: بحث حول المهدي (عجل) (الصدر، محمد باقر. 1966م، 1417هج) ، وهو عبارة عن مقدمة لكتاب استدلالي موسع بعنوان: موسوعة الإمام المهدي، لمؤلفه السيد محمد الصدر، وقد كتب هذا البحث وفقا لمنهج علمي ناقش فيه القضايا المثارة مناقشة علمية.
• الصراعات المذهبية الحادة، والحروب المدمرة التي تشهدها بلاد المسلمين بين أهل المذاهب والمعتقدات، وتسخر في ذلك كل الإمكانات المتاحة لحرف المعتقدات والتشكيك فيها. وهو صراع تغذيه جهات عالمية متعددة، وتناصره جهات إقليمية كثيرة. ووصل هذا الصراع إلى حالة تكفير الآخرين الذين يختلفون في الرؤية والمنهج، واستحلال أموالهم وأعراضهم، واستباحة دمائهم. وفي هذا الصراع المستطير تطرق الشك إلى كثير من الثوابت التي كان عليها المسلمون، ومن بينها العقيدة المهدوية التي تواترت بها الأحاديث فكانت من المسلمات، لتصبح عند كثير من الإسلاميين بأنها خرافة، وأسطورة. وأشاعوا في الروايات الصحيحة عن الإمام المهدي، بعض التضليلات، مثل ربطهم الغيبة بالسرداب الذي هو بيت الأمامين العسكريين والإمام المهدي، كل ذلك من أجل الطعن في أصل العقيدة وتشويهها.
• بروز أفكار وادعاءات شاذة أساءت كثيرا إلى العقيدة المهدوية وشوهتها وأعطت لأعدائها فرصا سانحة لمحاولات هدمها. ومن ذلك، على سبيل المثال، البابية التي ادعاها علي محمد الشيرازي في منتصف القرن التاسع عشر، وصدر حكم بإعدامه، لكن إعدامه لم ينه المشكلة، فقد خلفه الميرزا حسين علي الذي عرف باسم ميرزا بزرك، مدعيا أنه المهدي المنتظر، فنشأت بذلك العقيدة البهائية. ولا تزال الأفكار الشاذة، والادعاءات الكاذبة حول الإمام المهدي تظهر بين فترة وأخرى، منها ما يدعي أنه الواسطة للإمام، ومنها ما يدعي أنه الإمام نفسه.(شير علي، 2013).
النقطة الثانية: تشهد المجتمعات العالمية مجموعة من المتغيرات الهائلة، في الأنظمة المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، بفعل الثورات التقنية المتلاحقة، وتأثيراتها في أنظمة الاتصال، والتواصل، والمواصلات. وباختصار شديد، نشير إلى ذلك فيما يلي:
• باتت المعرفة التي كانت قصرا على نخب متميزة مشاعة بين عامة الناس، لا تحتاج إلى مكتبات عامة، ولم يعد الكتاب الورقي الوسيلة الأبرز للحصول على المعرفة، ويمكن لقرص بحجم نصف اصبع الخنصر تحميل آلاف الكتب التي كانت تحتاج إلى غرف واسعة، وأرفف متعددة. ويكاد يتلاشى دور المعلم والأستاذ الجامعي الذي يزود المتعلمين بالمعرفة، ويلقنها لهم، ذلك لأن ما سيقوله ويذكره قد سبقه أحد تلامذته بقراءته والاطلاع عليه. ويكفي للحصول على كثير من المعرفة والمعلومات امتلاك جهاز تلفون متصل بالشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، والدخول عبر عدد من المتصفحات والشبكات المتخصصة لكي تحصل على مئات، بل آلاف من تلك المعلومات والمعرفة المجانية. وقد عملت كثير من المؤسسات العلمية ودور النشرعلى تقديم خدماتها عبر شبكات إلكترونية. وعلى سبيل المثال فقط، فإن شبكة: IShia Books، تضم آلاف الكتب والبحوث العلمية مما تعجز عن استيعابه المكتبات الخاصة. ولقد بات ميسورا امتلاك الموسوعات الكبيرة من خلال تحميلها على أجهزة التلفونات الذكية.
• وبفعل ثورات التواصل والاتصالات والمواصلات، تداخلت الثقافات، وتغيرت كثير من أنماط السلوك الاجتماعي، ولم تعد الأعراف والتقاليد والقيم المتوارثة مقيدة للسلوك، بل إن كثيرا من تعاليم الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء تعرضت للتغيير والتحريف بفعل تداخل الحضارات وتلاقح الثقافات. وساهمت كثير من وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة من نقل الشائعات، ونشر الخطايا، والترويج للرذيلة، والتحريض على المنكرات، كل ذلك أدى إلى اضطراب هائل في الأنظمة الثقافية والاجتماعية.
• وأدت الثورة التقنية الهائلة، إلى الانغماس في لجي الانترنت دونما مراعاة لأحكام الشريعة وفقه وآداب التواصل الاجتماعي، وهو أمر أدى إلى الارتماء في أشراك الرذيلة والفجور، والفسق والمحرمات، وتحرير الكذب والإشاعة، وبثها ونشرها بين الناس، والقذف والبهتان والتعرض للأعراض وتعاطي الإفك والتشهير بالزور والبهتان، وغير ذلك من السلوكيات الدنيئة التي تحتاج إلى إعادة حساب في التعاطي مع التقنية المطورة التي غزت كل فئات المجتمع.
• وليس من قبيل المبالغة، القول بأن من أبرزالأخطار والتحديات التي تواجهها تربية النشئ، في الوقت الراهن، الانتكاس القيمي وتردي الأخلاقوانحدارها، وهو انتكاس وتردٍّ يفوق ما كانت عليه الجاهليات السابقة التي عاصرت بعثة الأنبياء والرسل. وأعظم مخاطرها، أن يتحول العقل الإنساني إلى أداة تصنع الشر وتنشر الدمار، وأن تنتكس الفطرة الإنسانية إلى ما هو أكثر صلفا وغلظة ووحشية من فطرة الحيوانات الضارية.
• وقد أخبر الرسول الأعظم محمد (ص) بهذا الواقع، وأعطى مؤشرات سلوكية على المستوى الفردي والاجتماعي، ومنها:
1. إذا تفقه المتفقه لغير الدين، وتعلم المتعلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة.
2. إذا كثر الأمراء، وقل الفقهاء، وتعلم العلم ليباهى به العلماء ويماري به السفهاء.
3. إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير وتتخذ سنة فإن غيرت يوما قيل هذا منكر.
4. إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم ولم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر.
5. إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا.
6. إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف.
النقطة الثالثة: تثبيت عقيدة الانتظار بالإمام المهدي (ع):
ذكرنا من قبل أن عقيدة الانتظار دين نتعبد بها لله، فكما نؤمن بكثير من المغيبات ونحن لم نرها، ولا يدركها الحس، مثل: الملائكة، وعذاب القبر، والبعث والنشور، والجنة والنار، والإسراء والمعراج، فإن عقيدة المهدي هي من نفس تلك المعتقدات التي نؤمن بها ونسلم لها دون أن نسأل عن البرهان الحسي، والدليل العقلي. وذكرنا سابقا أن واسطة الإيمان بها ما تلقيناه من أحاديث متوترة عن النبي (ص) الذي تلقينا منه نفس الأحاديث عن المغيبات الكثيرة التي نؤمن بها. ويختص الشيعة بجعل هذه العقيدة من ضرورات الإيمان، لا يكتمل الإيمان إلا بها. وعليه، فإنه من الواجب اللازم تثبيت هذه العقيدة في النفوس، وتحصينها من التشكيك والتضعيف والتوهين. وفي نظري، فإن ذلك يتطلب منا تربية إيمانية، تنمي في وجدان الناشئة الإيمان بالغيبيات التي تواترت فيها النصوص والأحاديث الصحيحة عن النبي (ص)، وأهل بيته المعصومين، واعتبار التشكيك فيها ضربا من وسوسة الشيطان الرجيم. ولا يعني ذلك، إلغاء العقل وتعطيله في هذه القضايا، ودوره الأكبر فيها يكون بتتبع النصوص والروايات، والتأكد من صحة مضمونها، وأسانيدها. وإذا كان على العقل أن يجد تفسيرا منطقيا لكثير من المعتقدات التي هي من قبيل الإعجاز الإلهي، مثل: نار إبراهيم، وعصاة موسى، وريح سليمان وفهمه للغة الطيور والوحوش، وولادة عيسى المسيح، والملائكة، والجن، والإسراء والمعراج، والمهدي المنتظر، والحشر والنشر، فإنه يجب أن يدرك أن له حدودا في إيجاد تفسير منطقي لكثير من القضايا بوسائل التفكير التي يستخدمها، وأنه ربما يأتي الزمان الذي يتفتق فيه هذا العقل ليبرهن على أن تلك القضايا التي أشرنا إليها، هي ليست أشياء خارقة لنواميس الطبيعة، وهي ليست معجزات فوق القوانين الطبيعية، وإنما هي قضايا تجري وفق نواميس الطبيعة.
وفي اعتقادي، فإن تثبيت عقيدة الانتظار يتطلب تربية إيمانية تقوم على التسليم المطلق بقدرة الله، وسريان أمره، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. وقد ورد لفظ كن فيكون مكررا في مجموعة من الآيات القرآنية هي:
• ” بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” ( البقرة: 117).
• “قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” (آل عمران: 47).
• “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون” (آل عمران: 59).
• “وهو الذي خلق السماوات والآرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير” (الأنعام: 73).
• ” إنما قولنا لشيئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون” (النحل: 40).
• ” إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” (يس: 82).
• ” ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” (مريم: 35).
• ” هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” (غافر: 68).
وبالتأمل في الآيات السابقة تجد أنها كلها تتحدث عن قضايا يعجز المنطق العقلي عن مناقشتها وإدراكها وإيجاد تعليل مادي لها، وبالتالي، يتم التسليم فيها لقدرة الله غير المتناهية التي لا تحدها حواجز الطبيعة وليست خاضعة للقوانين المدركة بالعقل.
ثالثا: وللإجابة عن السؤال الثالث: ما هو دور المجتمع المؤمن في المحافظة على عقيدة الانتظار بالمهدي وتفعيلها على المستويين الفردي والمجتمعي؟:
يتحمل المجتمع المؤمن مسؤولية كبيرة في المحافظة على عقيدة الانتظار، وجعلها قيمة إيمانية، ومعتقدا لازما،وسلوكا مشاهدا. وتطال المسؤولية أيضا كل شخص مكلف في هذا المجتمع، وفيما يلي بعض المقترحات التي تساهم في تحمل هذه المسؤولية.
1. النظر بإيجابية لمفهوم الانتظار: فالانتظار تهيؤ واستعداد، وترقب للفرج، ويستلزم الجد والاجتهاد، والتمكين للإمام المنتظر، وذلك يتطلب إيمانا متعمقا، وعملا صالحا، وذلك ما تدل عليه الآية التالية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ. (النور: 18). والانتظار لا يعني الاتكال على القدر، وترك الأمر إلى أن يأذن الله بالفرج، وهو ليس دعاء تلوكه الألسن (اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، واجعلنا من أتباعه وأنصاره)، لكنه تصميم وعزيمة وجد وعمل وتوطين للنفس على أن تكون في خدمة الإمام المنتظر الذي يريد من أتباعه أن يكونوا من المؤمنين المخلصين لله.
2. الانسجام في الرؤى ووحدة الهدف والمنهج: ومن الواجب المشدد أن يكون هناك انسجام في الرؤى، ووحدة في الهدف والمنهج بينه وبين شيعته، ولا يكفي الدعاء بتعجيل الفرج في ذلك. وحين تتباعد الرؤى، وتختلف الأهداف، وتتعدد المناهج لا يمكن إنشاء علاقة تُمَكِّن من إقامة دولة العدل الإلهي. وفي اعتقادي، أن حالة الفساد الأخلاقي، على المستويين، الفردي والاجتماعي، تحول دون بناء علاقة بين الجهتين، كما أن حالة التشكيك والارتياب لا تساهم في بناء الثقة المطلوبة. والمطلوب أن ينشأ تلاحم روحي، وتعلق وجداني مبني على إيمان عميق مع الإمام، تهون مع هذا التلاحم كل الصعوبات الناشئة، والأذى الناتج من عقيدة الانتظار. وبهذا تكون للكلمات الواردة في دعاء العهد، معنى، وتتجسد إحساسا وسلوكا، حين نرفع أيدينا بالدعاء قائلين: “اللهم أرني الطلعة الرشيدة،والغرة الحميدة، واكحل ناظري بنظرة مني إليه، وعجل فرجه، وسهل مخرجه، واسلك بي محجته، وأنفذ أمره، واشدد أزره، واعمر اللهم به بلادك، واحيي به عبادك، فإنك قلت وقولك الحق، (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) الروم: ، اللهم فأظهر لنا وليك، وابن وليك، وابن بنت نبيك، المسمى باسم رسولك صلى الله عليه وآله في الدنيا والآخرة، حتى لا يظفر بشيئ من الباطل إلا مزقه، ويحق الحق ويحققه” (القمي).
3. توثيق العلاقة مع الإمام المنتظر: ومن الواجب المشدد أن تتوثق العلاقة مع الإمام المنتظر، ويتطلب ذلك اتصالا روحيا مستمرا، وتجديد للبيعة والعهد معه، وثباتا على الولاء له، وطاعة لتعليماته، ومعاداة لكل ما يكره، وتجنبا لكل ما يسيئه. وبمعنى آخر، فإن الجهد ينبغي أن يوجه لبناء الشخصية المؤمنة التقية التي يتوافق سلوكها مع سلوك الإمام، الذي هو سلوك الإسلام الصحيح الذي حث عليه أئمة أهل البيت، ومنه: الورع، والتقوى،والتواضع، والتخشع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، والتعهد للجيران، وكف الأذى، وصدق الحديث، وغير ذلك مما ورد عن أئمة أهل البيت (ع). ولمزيد من توثيق العلاقة مع الإمام، يدرج (المدرسي ) في بحث له عن الإمام المنتظر، مجموعة من السلوك، مثل: زيارة الإمام عجل الله فرجه والسلام عليه بعد الانتهاء من أداء صلاة الصبح، ولو بجملة واحدة هي: السلام عليك يا مولاي يا صاحب الزمان، والدعاء له، وتخصيص يوم واحد في الأسبوع، وبالذات يوم الجمعة لقراءة الأدعية والزيارات الخاصة بالإمام، كدعاء الندبة، ودعاء العهد، وإحدى الزيارات الخاصة به، والدعاء لله ببركة الإمام لقضاء الحاجات، بالإضافة إلى تنظيم السلوك الاجتماعي بما يتوافق مع سلوك الإمام وأخلاقه.
المراجع:
• القرآن الكريم.
• أبو داوود السجستاني، سنن أبي داوود.
• الترمذي، سنن الترمذي.
• الصدر، محمد باقر (1966م، 1417هج) . بحث حول المهدي. تحقيق الدكتور عبد الجبار شرارة. مركز الغدير للدراسات الإسلامية. (نسخة إلكترونية).
• القمي، عباس. مفاتيح الجنان، دعاء العهد.
• المدرسي، محمد تقي. (مايو 2015). الإمام المهدي عليه السلام قدوة الصديقين. نشر إلكتروني al-shia.org/html/ara/books/
• شير علي، حسين سامي (2013). مدعو المهدوية مهدوية علي محمد الشيرازيوالطريق إلى الباب، نشر إلكتروني، شبكة الشيعة الثقافية www.shianet.info