بقلم الدكتور عبد علي
تعود بدايات تأسيس الجمعية الحسينية في قرية النويدرات إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي وبداية ستينياته، ففي نهاية الخمسينيات كوّن نفر من شباب القرية ما يشبه بلجنة لإدارة موكب عزاء أبي عبد الله الحسين (ع)، ومن أبرز أولئك النفر الذين أتذكر اسماؤهم المرحومون: عباس بن عبدالله بن عباس آل مال الله، حاج حسن أحمد الهدي، والحاج عبد الله بن حسن بن سرحان، وكذلك الحاج علي بن جاسم مدن وغيرهم.
وبدأت هذه المجموعة بإدارة مواكب العزاء الذي كان ينظم فقط في أيام عشرة محرم الأولى ويوم الأربعين ويوم وفاة النبي (ص)، وأتذكر جيدا بداية إدخال موكب الزنجيل (الصنقل) في القرية وقيامهم بشراء سراويل وأقمصة سوداء للأطفال خاصة لذلك، ودعوتهم لأحد المدربين من الخارج (أظن أنه من عجم المحرق) لتنظيم الموكب، وأتذكر بعض الكلمات التي كان يرثي بها وقد حفظناها نحن الأطفال ولا تزال عالقة في ذاكرتنا وهي: ماذر علي أكبر قربان تو ليلي، وتكرر مرارا على وقع الحركات البطيئة الأمامية والجانبية لحاملي الزناجيل.
ومن أبرز تنظيمات موكب العزاء أولئك الشباب الذين يتحلقون في دائرة ويضربون صدورهم بأيديهم على نغمات (شيلات) العزاء التي يرددها أحدهم وهم يتابعونه أو يكررون مقطعا منها تبتدئ بها الشيلة، وفوق رؤوسهم تخفق الرايات والأعلام، لا سيما حين ينحنون بأجسامهم إلى الأمام في منظر تشاهد فيه الحلقة وكأنها راكعة.
لقد شاهدت المرحوم عباس بن عبد الله بن عباس آل مال الله يدير تلك الحلقات برايته وشيلاته، ولكنه ما لبث أن انتقل إلى جوار ربه إثر حادث مؤلم أودى بحياته هو ومحمد علي بن حسن محمد أخ عبد الجبار، محمد أخ عبد الجبار، ومهدي بن جمعة.
كان هم تطوير موكب العزاء الشغل الشاغل للشباب، ورأوا ضرورة الاستعانة بالخبرة الخارجية، فكان أن اتفقوا مع موكب الحياك بالمحرق أن يذهبوا هم لمشاركتهم في المحرق ويأتوا هم لمشاركة القرية في النويدرات، وبالفعل تم ذلك ، ولكن مجيئ موكب المحرق بدفوفه وطبوله وموسيقاه أغضبت كثيرا من رجال القرية ومن بينهم المرحوم الشيخ منصور الستري الذي انزعج كثيرا من ذلك. وتم معالجة الأمر والاعتذار لهم عن ذلك والتعهد بعدم الرجوع إلى مثلها.
في بداية الستينات (١٩٦٢م) قام بعض شباب القرية بتشكيل لجنة للغرض السابق نفسه، تسيير موكب العزاء، ولكن كثيرا من الأفكار المتطورة صاحبت هذا التشكيل، منها تأسيس جمعية حسينية لرعاية كل الشؤون الحسينية وتنظيم الاحتفالات الدينية لا سيما الاحتفال بالمناسبات الدينية.
وكان على رأس أولئك المرحوم الحاج حسين بن علي بن حاج حسن الذي كان في تلك الأيام كهلا قد جاوز الخمسين من عمره، ولكنه قريب من الأفكار التي كان الشباب يحملونها، وكذلك المرحوم عبد الله بن حسن بن سرحان، وكان قد تجاوز الثلاثين من العمر، وعباس البربوري، والحاج علي بن جاسم بن مدن، وإبراهيم حبيب الصميخ، والحاج حسن زيد، وعلي صليل، وحسن الصميخ، وكنت أنا من بين هؤلاء.
كانت الفكرة الرئيسة للجمعية الحسينية تقوم على تأسيس جمعية لتنظيم مواكب العزاء، وتنظيم الاحتفالات الدينية، وشراء قطعة أرض لتأسيس مركز للجمعية ومأتم عام لجمع الناس كلهم، ليس بديلا عن المآتم العائلية بل يكون مكملا لها.
وكانت هناك اعتراضات على الفكرة بحجة أنها ستضعف المآتم القائمة، وأنها لن تزيد شيئا سوى رفع عدد المآتم من تسعة إلى عشرة، وأنها ستبعث على الشقاق والخلاف.
وبالفعل تم شراء الأرض بمبلغ ٢٧٠ دينار (٢٧٠٠ روبية) من الحاج حسين بن يوسف بن ربيع، وتم تشييد دكان بها عرف بين الناس أنه دكان الجمعية، وكان يبيع المواد الغذائية لا سيما (الروتي) الذي كان يأتي طازجا من المخبز فينفذ بسرعة. وكان المرحوم الحاج حسين بن علي هو المتولي لأمر الدكان، ثم كان الحاج عبد الله بن حسن بن سرحان.
وفي تلك الأثناء برزت فكرة توفيقية بين الاعتراضات القائمة على تأسيس الجمعية الحسينية وبين الحماس لتأسيسها، وتتمثل هذه الفكرة في تسمية الجمعية: الجمعية الخيرية، ولم يكن هناك بالطبع صندوق خيري، ويكون من بين أهدافها إدارة العمل الخيري بكل جوانبه، بالإضافة إلى تنظيم المواكب والاحتفالات الدينية. ومثل ذلك إحساسا بأهمية العمل الخيري، وربطه باسم الحسين، ويكون شباب قرية النويدرات بفكرتهم هذه أسبق من كل القرى بتأسيس الصناديق الخيرية التي تحولت الآن إلى جمعيات خيرية.
والأهم من كل ذلك أن تلك الفكرة خضعت لمشاورات واسعة بين رجال القرية وشبابها، واستشير في ذلك أيضا المرحوم الشيخ منصور الستري الذي كان له ثقل اجتماعي في القرية آنذاك. وتمت الموافقة على الفكرة والانتقال إلى التنفيذ.
بدأ تنفيذ الفكرة بوضع اللائحة التنظيمية (دستور الجمعية) وقمت أنا بصياغته مستعينا بآخرين وتم عرضه على المرحوم الشيخ منصور الستري الذي أجازه بعد إدخال بعض التعديلات عليه. وتقضي اللائحة بإقامة مجلس إدارة منتخب للجمعية، وتحديد لمسؤوليات الإدارة، ونظام محاسبي لماليتها، وفتح حسابات بنكية. ومع شديد الأسف أن هذه اللائحة المتقدمة زمنيا قد ضاعت منا، ولم نشعر بقيمة الاحتفاظ بها للأجيال القادمة.
وبدأت خطوة ثانية بالتقدم لإدارة الشؤون الاجتماعية (لم تكن هناك وزارات) وكان يرأسها الأستاذ جواد سالم العريض، وقدمنا طلب تأسيس للجمعية مصحوبا باللائحة التنظيمية لها (دستور الجمعية)، وقابلته أنا والحاج عباس البربوري في مكتبه الكائن بالقرب من باب البحرين بالمنامة، وكانت أسئلته عن غرض تأسيس الجمعية محرجة، لكننا أقنعناه بأهمية ذلك.
وبالفعل تم فتح حسابين للجمعية في تشارترد بنك واحد جاري وآخر توفير باسم جمعية النويدرات الخيرية NOIDRAT WELFARE COMMETTE.
وتم تشكيل مجلس إدارة، وانتخبت أنا برغم صغر سني، رئيسا لها، وبدأنا العمل في تحقيق أهداف الجمعية.
كانت الخطة تقضي بتجميع المال اللازم لتشييد المأتم، والارتقاء بتنظيم المواكب الحسينية والاحتفالاات الدينية، وفي نفس الوقت أن يبقى نفس (بفتح النون والفاء) القرية متناسقا لا خلاف ولا شقاق. وكنا ندرك خطورة الانقسام والانشقاق بين الناس، ولذلك كنا نحرص على تجنبه.
كانت كل الاعتراضات من بعض رجال القرية على موكب العزاء الذي يذهب للمحرق صباح عاشوراء تاركا مآتم القرية شبه خاوية، وفي الوقت نفسه كانت له كلفة مالية من المستحسن أن توضع في مشروع بناء المأتم . وتم تنظيم ما يشبه الاستفتاء في القرية عن تأييد ذهاب وكانت النتيجة أن الغالبية لا تؤيد ذلك. وتم اتخاذ قرار من الجمعية بهذا، واعتذرنا للآخوة في المحرق.
ومضت الخطوات، ونسي اسمي الجمعية الخيرية، وانتشر اسم الجمعية الحسينية، وتم بناء المأتم وتوالت إدارات متعددة لها. وهكذا تتحول الأفكار الصغيرة إلى صروح شامخة.
بارك الله للجميع في هذا الصرح الحسيني، وجعل ثواب كل عمل خير الجنة، وغفر الله لنا سيئات أعمالنا وما أضمرناه من سوء، إنه هو الغفور الرحيم.