قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة : 119).
الآية الشريفة المباركة: تخاطب المؤمنين خطابا اجتماعيا عاما وتأمرهم بالتقوى وأتباع الصادقين في كل شأن من شؤون الحياة، وتوثيق الروابط بهم وعرى الانقياد إليهم والسير على خطاهم وعدم مخالفتهم في شيء كبر أم صغر.
ويتضمن البحث في الآية الشريفة المباركة نقاط أساسية عديدة..
النقطة الأولى
تخصيص المؤمنين بالخطاب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فالآية الشريفة المباركة تخص المؤمنين دون غيرهم من الناس وتشرفهم بالخطاب، وهذا يدل بالإضافة إلى تشريف المؤمنين على أمرين أساسيين..
الأمر الأول: أن غير المؤمنين غير مؤهلين فكريا وروحيا ونفسيا وعمليا لتنفيذ الأمر الإلهي العظيم الذي جاء في الآية الشريفة المباركة، حيث أن غير المؤمنين لا يتلقون الأمر والنهي من الله (جل جلاله) وهم غير خليقين من الناحية العملية للتحلي بالصفتين الأساسيتين التين تأمر بهما الآية الشريفة المباركة وهما: التقوى والكون مع الصادقين، وتدعو إليهما من جميع الوجوه وعلى كافة الأصعدة والمستويات. وفي الآية الشريفة المباركة – على هذا الأساس – ذم وتعريض ضمني بغير المؤمنين.
الأمر الثاني: أن المأمور بهما: لازم من لوازم الإيمان ، وأن عدم وجودهما لدى من يتسمى بالإيمان، يدل على وجود النقص والتشويه والخلل في إيمانه، وينبغي عليه معالجة ذلك لكي يتصف بحقيقة الإيمان، ويحصل على قيمته الفعلية في الحياة ، ويكون مستحقا للثواب في الآخرة.
النقطة الثانية
الأمر بالتقوى
{اتَّقُواْ اللّهَ} في كل شيء: في أقوالكم وأفعالكم ومواقفكم وعلاقاتكم وانتماءاتكم وفي كل ما تتركون، وفي الإتباع للقيادة الشرعية المستوفية لكافة الشروط في أمر السلم الحرب والعهود والمواثيق وعدم التخلف عنها في شيء من ذلك ولا في غيره.
ويدل الأمر بالتقوى على أمور عديدة.. منها:
الأمر الأول: الالتزام بالاستقامة في الحياة في كل المواقع وعلى كافة المستويات: في الفكر والشعور، وفي الانتماء والسلوك والمواقف، وفي المعاملة مع الناس.. ومن ذلك: تحري الدقة والموضوعية والإخلاص في البحث عن الحق، والتزام العدل والإحسان بين الناس في المعاملة، والحرص على سلامة النفس من الأمراض النفسية كالنفاق والحقد والحسد والكذب والبهتان، والتزام الصدق مع الله (جل جلاله) ومع الناس ومحبتهم، والوفاء بالعقود والعهود والمواثيق، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله (تبارك وتعالى) وأوجه الخير وأداء كافة الفرائض الدينية، ومساعدة الفقراء والمحرومين وقضاء حاجات المحتاجين، والصمود أمام مشاكل الحياة والتحديات التي يفرضها الطواغيت والحكام الظالمون المستبدون وقوى الاستكبار.
فالمتقون الحقيقيون هم (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) فلا يخافون المصاعب والعقبات في الحياة، ولا يتراجعون أمام التحديات التي يفرضها أعداء الدين والإنسانية، ولا يترددون في تقديم كل أشكال الفداء والتضحيات اللازمة لتحقيق الأهداف الشرعية النبيلة المطلوبة من أجل كرامة الإنسان وكماله ورقي الحياة الإنسانية وتطورها، ليتحقق بذلك كله الانسجام بين خط الإيمان في العقل والقلب والنفس من جهة، وبين حركة الواقع والأجواء الاجتماعية العامة في الحياة من جهة ثانية.
قال الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة : 177).
الأمر الثاني: أن خط الاستقامة في الحياة هو خط الإسلام والتوحيد فقط {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} وهو خط أولياء الله وعباده الصالحين، ولا يمكن أن يكون غير الإسلام والتوحيد خط استقامة في الحياة بأي حال من الأحوال.
فمن أراد أن يكون على خط الاستقامة في الحياة، فعليه أن يكون على خط الإسلام والتوحيد، الذي هو خط أولياء الله وعباده الصالحين، وهم الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول الذين يتصفون بالصدق بجميع الوجوه كما سيوضح بعد قليل.
قال الله تعالى : {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة : 6 – 7).
الأمر الثالث: أن خط التوحيد هو منهج فكر ورؤية شاملة للكون والإنسان والحياة ونظام قيم ومنهج عمل وشريعة شاملة لكافة جوانب الحياة، وليس هو مجرد حالة عقلية جامدة لا تغير شيئا في نفس الإنسان وشعوره ولا تقدم ولا تؤخر في واقعه وسلوكه ومواقفه الخاصة والعامة في الحياة.
النقطة الثالثة
الأمر بالكون مع الصادقين
{وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} أي الذين يعيشون الصدق في الحياة على مستوى الفكر والشعور والانتماء والسلوك والمواقف بعيدا عن الازدواجية والانحراف والارتباك والشك والتردد، والذين تمثل الحياة بالنسبة إليهم ساحة عمل وجهاد وصمود وثبات في المواقف والخطوات العملية، وليس مجرد إصدار فقاعات وبالونات هوائية وأقوال منمقة وخطابات نارية وشعارات جميلة، ثم تذهب كلها أدراج الرياح مع أبسط تحدي وأبسط وخزة إبرة من العدو، فتكون بذلك خالية من الصدق على مستوى العمل والتطبيق.
قال الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (الإسراء : 80).
قال العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية الشريفة المباركة: “والعناية في إضافة الإدخال والإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول والخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره” (الميزان . ج13 . ص176).
وقال في مكان آخر: “فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد والقول والعمل ، وإذا صدق تطابقت الثلاثة ، فلا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يعتقد” (الميزان . ج2 . ص430).
مع التنبيه: إلى أن الكون مع الصادقين يختلف عن الكون منهم والاتصاف بصفتهم ، فالكون معهم يعني الإتباع إليهم والاقتداء بهم، وهذا يدل على أن المراد بالصادقين في الآية الشريفة المباركة، ليس هم جميع المؤمنين بحيث يؤول المعنى إلى الكون من جماعة المؤمنين، وإنما هم فئة خاصة من المؤمنين يمثلون القيادة والقدوة الحسنة لكافة المؤمنين المتقين في الدين والدنيا.
فالآية الشريفة المباركة: تتكلم عن القيادة الشرعية بصورة أساسية، وتأمر المؤمنين بالالتفاف حولها والوفاء لها، والسعي معها لتحقيق أهداف الرسالة العظيمة في الحياة، وهذا ما تدل عليه مضامين الآية الشريفة المباركة والسياق الذي جاءت فيه، وسوف يتضح ذلك أكثر من خلال النقاط التالية من البحث.
النقطة الرابعة
معنى الصدق
للصدق بحسب الاستخدام القرآني أربعة معاني أساسية..
المعنى الأول – مطابقة الحديث للواقع: ويوصف الإنسان به إذا طابقت أخباره ما هو موجود في الواقع بدون تغيير أو تحريف أو تبديل.
المعنى الثاني – مطابقة الاعتقاد للواقع: ويوصف الإنسان به إذا طابقت اعتقاداته الواقع بدون أن تشوبه شائبة الشك والتردد.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات : 15) وهي تدل أيضا على المعنى الثالث للصدق – الذي سوف أذكره بعد قليل – ولا يمكن أن يتصف إنسان بالصدق في الاعتقاد بصورة مطلقة إلا إذا كان معصوما، فغير المعصوم لا يمكن أن تكون كل أفكاره صحيحة وغير مخالفة للواقع.
المعنى الثالث – مطابقة الأفعال للاعتقاد: ويوصف الإنسان بالصدق استنادا إلى هذا المعنى، إذا عمل طبقا لما يعتقد ولم تخالف أعماله معتقداته وإن تطلب ذلك منه التضحية والفداء.
قال الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة : 177).
يقول سماحة العلامة الشيخ محسن الأراكي: “فكل إنسان عندما يذعن بقبح القبيح وحسن الحسن، وصاغ شخصيته وفق هذا الإذعان، تصبح شخصيته صادقة وغير متناقضة. فقد تكون شخصيته صادقة في كلامها ولكنها كاذبة في محتواها، فهي لا تبني نفسها على أساس ما تؤمن به. وهو خطر أخطر من الكذب بالقول” (محاضرة في دار الأبرار بلندن. يوم الخميس 25 يناير 2007م).
المعنى الرابع – مطابقة الأفعال للعزم والإرادة: ويوصف الإنسان بالصدق استنادا إلى هذا المعنى، إذا أتى بما يريده ويعزم عليه من الحق بقوة وجد {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي بدون ضعف وتردد أمام التحديات والصعوبات التي تواجهه في الحياة. فلا يتراجع عما يعزم عليه من الشأن الحق لمجرد أن هناك صعوبات وتحديات تستوجب منه الصبر والتضحية والفداء من أجله.
النقطة الخامسة
الإطلاق في الآية الشريفة المباركة
جاء الأمر بالتقوى ولفظ الصادقين والأمر بالكون مع الصادقين في الآية الشريفة المباركة على نحو الإطلاق أي غير مقيد بقيد ما، وهذا يدل على أمور مهمة أساسية.. منها:
الأمر الأول: أن المراد بالصدق هو معناه الواسع الشامل لجميع المعاني وليس معنى خاص من المعاني الأربعة التي ذكرت في البحث أو غيرها إن وجد.. وذلك: لأن الآية الشريفة المباركة تأمرنا بالإتباع والاقتداء بالصادقين في كل شيء، وليس كل مؤمن يتصف بالصدق في الحديث أو يكون قوي الإرادة وشديد العزم يصلح للقيادة ويجوز الاقتداء به في كل شيء.
الأمر الثاني: أن المراد بالصادقين ليس عموم المؤمنين، وإنما هم فئة خاصة تتصف بالصدق من جميع الوجوه وبكل معانيه وعلى كافة الأصعدة والمستويات، وتكون مؤهلة للإمامة والقيادة، وأن تكون في موقع القدوة الحسنة إلى الناس في جميع شؤون الحياة.
الأمر الثالث: تنطبق الآية الشريفة المباركة بصورة خاصة على المعصومين: الرسول الأعظم الكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام وتدل على وجود المعصوم في كل زمان، حيث أن الخطاب عام لجميع المؤمنين في كل زمان. كما تدل على أن المعصوم هو وحده الذي له حق القيادة الشرعية العليا الإمامة في الدولة الإسلامية بالأصالة، أما غيره المستوفي للشروط فيمكن أن تكون له القيادة العليا (الإمامة) بالنيابة عنه.
سأل سلمان الفارسي رضي الله عنه الرسول الأعظم الكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول الآية الشريفة المباركة موضوع البحث.. فقال: يا رسول الله: أعامة هي أم خاصة؟
فقال الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : “أما المأمورون فالعامة من المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة”. (تفسير البرهان . ج2 . ص170).
الأمر الرابع: بما أن للصدق بجميع معانيه درجات، وبما أن الآية الشريفة المباركة تتناول أمر القيادة، وبما أن القيادة العليا قد تكون لغير المعصوم كما هو الحال في عصر الغيبة الكبرى بالإضافة إلى الصفوف الأخرى التي تكون غير معصومة في جميع الأوقات إلا في حالات قليلة، فإننا نتوصل من ذلك إلى النتائج التالية..
النتيجة الأولى: إن بعض من تنطبق عليهم حقيقة الصدق يقع في القمة وهم الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام والبعض الآخر أقل درجة منهم مثل الفقهاء العدول.
النتيجة الثاني: أن الظالم والفاسق لا تجوز حكومته وأتباعه في الإسلام.
النتيجة الثالثة: أن الولي الفقيه في عصر الغيبة والصفوف المتقدمة من القيادات الإسلامية في كل زمان ومكان، ينبغي أن يتصفوا بالصدق بجميع معانيه وعلى كافة الأصعدة والمستويات، فيتصفوا بسلامة العقيدة، ووضوح الرؤية، وسلامة المنهج، وبالشجاعة والصمود والثبات أمام المغريات والتهديدات، وأن يكونوا ذا مصداقية في الحياة على مستوى الأقوال والأفعال والسلوك والمواقف وفي العلاقات مع الغير، وغير ذلك من الصفات التي تلزم عن حقيقة الصدق الجامع لكل المعاني..
والقاعدة العامة في ذلك إسلاميا: أن لا يعطى أحد من المسؤولية العامة في الدولة الإسلامية والحركة الإسلامية أكبر من كفاءته وقدرته الحقيقية ومؤهلاته الفعلية وليست الشكلية. لأن الإخلال بهذا الشرط يؤدي إلى الفساد في الدين والدنيا والآخرة، ويؤدي إلى نقض الغرض من الرسالة الربانية في الحياة.
النقطة السادسة
الترتيب في الأمر بالتقوى والكون مع الصادقين
إن الأمر بالكون مع الصادقين بعد الأمر بالتقوى يدل على أن التقوى والاستقامة في الدين والحياة لا يمكن أن يتحققا إلا بالرجوع إلى الصادقين كمرجعية عليا في القيادة الدينية والدنيوية، وبدون الرجوع إليهم لا يمكن أن تتحصل التقوى وتتحقق الاستقامة في الحياة بأي حال من الأحوال. كما يلزم عن التقوى الرجوع إلى الصادقين، ومن لا يرجع إلى الصادقين فهو يرجع إلى غيرهم من الظلمة والمستكبرين والطواغيت، ومن يرجع إلى هؤلاء، فلا تقوى لديه ولا إيمان ولا استقامة في الحياة، فهو كاذب مع الكاذبين مهما حاول أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين بالأقوال أو التظاهر بالتقوى أو الزهد في الحياة أو غيرهما من المظاهر الكاذبة التي لا حقيقة لها في النفس ولا في الواقع.
ومن جهة ثانية: فإن الترتيب بين الأمرين يؤدي – بحسب التحليل العلمي – إلى تحقيق هدفين أساسيين..
الهدف الأول: أن يعيش المؤمنون المتقون الإيمان والتقوى بحق وحقيقة في جميع المواقع وعلى كافة المستويات في الحياة: على مستوى الفكر والشعور والانتماء والسلوك والمواقف والعلاقات مع الغير وغير ذلك.
الهدف الثاني: تمكين المؤمنين المتقين من قطع الطريـق إلى الله ذي الجلال والإكرام والآخرة، المليء بالعقبات والصعوبات والمنعطفات بأمن وسلام ويصلوا إلى دار السلام بدون خوف أو قلق أو اشتباه.
مع التنبيه: إلى أن هذين الهدفين العظيمين يتحققان للمؤمنين في حال تمسكهم بعروة المعصومين عليهم السلام والفقهاء العدول المستوفين لكافة الشروط الذين ينطبق عليهم وصف الصدق بجميع معانيه – كما سبق بيانه – وأتباعهم في حال المعارضة وممارسة السلطة، والاستعداد لتقديم أعظم التضحيات والفداء بين أيديهم لتحقيق الأهداف العظيمة للرسالة الربانية المقدسة، ولا يمكن أن يتحقق هذان الهدفان بدون هذا الإتباع بشروطه المذكورة.
النقطة السابعة
كيف يتحقق الإتباع للصادقين؟
لكي يتحقق الإتباع للصادقين الذين ينطبق عليهم الصدق بمعناه الجامع فعلا وعدم الوقوع في الكذب على مستوى التطبيق والخطوات العملية – كما نجده كثيرا في الواقع لدى الكثير من المؤمنين – ينبغي على الأتباع المؤمنين التدقيق في صفات القيادات وأفعالهم قبل السير في ركابهم، وعدم الانخداع بالصور والعناوين والألقاب التي لا يمتلك أصحابها المضمون الصادق الذي يرومه المؤمنون من الناحية النظرية والعملية بسبب أن تلك القيادات لا تمتلك الكفاءة النفسية أو العملية للكون مع الصدق على المستوى العملي والخطوات التطبيقية، رغم إيمانها النظري به، ودعوتها إليه، ورفعه على مستوى الخطاب والشعار، وتظاهرها بالشجاعة والصمود أمام التحدي بدون أن يكون لذلك حقيقة في المواقف والخطوات العملية، فيقع المؤمنون بأتباع تلك القيادات في الكذب والباطل على صعيد العمل والتطبيق، رغم إرادتهم للحق والصدق في أنفسهم وعقدهم النية عليه.
أيها الأحبة الأعزاء..
إن كثيرا من القيادات تؤمن بالحق على المستوى النظري، وتطرحه على مستوى الخطاب والشعار، ولكنها تعيش الكذب في خطواتها العملية ولا تمثل الصدق في مواقفها، بسبب عدم وضوح الرؤية العملية والتطبيقية لديها، أو بسبب خطأ المنهج الذي تسير عليه، أو بسبب الضعف أمام المغريات والتهديدات من الأعداء والخصوم، فتعيش الباطل على مستوى الواقع والتطبيق، وإن آمنت بالحق والصدق على مستوى النظرية وطرحتهما على مستوى الخطاب والشعار. وهذه الحالة الكاذبة التي يقع فيها المؤمنون بغير قصد أحيانا، وتحت تأثير عوامل الضعف أحيانا أخرى، والتي ينبغي عليهم جميعا الحذر منها، هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن تكريس الانحراف والظلم والاستبداد والتخلف في المجتمعات الإسلامية، رغم إيمان المؤمنين بالحق والعدل والصدق والإصلاح على المستوى النظري.
أيها الأحبة الأعزاء..
أنتم تعلمون أن في زماننا هذا يوجد أكثر من يزيد، وبعضهم أكثر سوء من يزيد بن معاوية بن سفيان الذي قتل الإمام الحسين عليه السلام كما تدل على ذلك أفعالهم، فهم مستعدون لقتل ألف حسين لو وجدوا، ولن يترددون في ذلك من أجل بقائهم في الحكم، كما قتل من كان قبلهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام طمعا في الثروة والجاه والسلطة. ولو وجد لكل يزيد حسينا، لما كان هذا الوضع المتردي جدا الذي نعيشه اليوم في العالم الإسلامي.
أما السبيل إلى النجاة والخروج من هذا الواقع الكاذب المنهي عنه في القرآن الكريم فيكون بإتباع الخطوات التالية..
الخطوة الأولى: التدقيق في صفات القيادات وأفعالهم والتأكد من استيفائهم لكافة الشروط التي تجعلهم من الصادقين بحق وحقيقة على مستوى النظرية والتطبيق قبل السير في ركابهم.
يقول العلامة السيد محمد حسين فضل الله: “… أن الله يرفض للإنسان أن ينتمي بالمودة أو بالمواقف إلى الذين يقولون ما لا يفعلون، لأن الله يمقت أمثال هؤلاء أكبر المقت. وفي ضوء هذا، قد يشعر الإنسان بالحاجة إلى التدقيق في ما يعرض عليه من حالات الانتماء إلى هذا الفريق أو ذاك، ليدرس شخصية الفكر والأسلوب والهدف والقيادة والممارسة، ليحدد موقعه من ذلك كله، قبل أن يوافق على السير مع هذه الجهة أو تلك سلبا أو إيجابا، لأن ذلك هو الذي يحفظ له مستقبله من الانهيار، وخطواته من الزلل، وهو الذي يحفظ للمجتمع المؤمن سلامته وانسجامه مع خط الإيمان وفكره، على صعيد النظرية والتطبيق” (من وحي القرآن. ج11 . ص236).
وهذا يتطلب من المؤمنين في مقام البحث عن الصادقين بهدف إتباعهم والكون معهم، أن يتغلبوا على التأثير السلبي لعواطفهم ومشاعرهم وارتباطاتهم الاجتماعية وعصبياتهم العائلية أو القبلية أو الحزبية أو المناطقية أو غيرها، وأن لا ينخدعوا بالعناوين والألقاب والصور الجوفاء، وأن لا يجعلوا بينهم وبين الحق حجابا من أي نوع كان. عليهم أن يجعلوا قلوبهم مستقرة في صدورهم، وأن يجعلوا عقولهم مستقرة في جماجمهم، وأن يجعلوا لهما السيطرة والحكم على أبصارهم وأسماعهم ومشاعرهم، وأن يحذروا من حبس قلوبهم وعقولهم في قفص أسماعهم وأبصارهم وعصبياتهم، فلا يحكموهما فيما يرون ويسمعون، فتخدعهم المظاهر والأسماء والعناوين والألقاب، ويخدعهم أصحاب السمعة والرياء، وتسيطر عليهم العواطف والمشاعر والعصبيات، فيكونوا من الخاسرين في الدين والدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل : 78).
أيها الأحبة الأعزاء..
علينا أن نتعلم الدرس البليغ جدا من تجربة العلامة الشيخ ميثم البحراني (قدس سره) حيث دعاه علماء من الحلة لزيارتهم للاستفادة من علمه، فرد على طلبهم بأبيات من الشعر فيها أن الناس طلاب مال وجاه وليسوا طلاب علم وشرف، فأجابوه بأنهم ليسوا منهم. فذهب إلى زيارتهم، ودخل عليهم في اليوم الأول متنكرا فلم يعرفوه، وشاركهم البحث بآراء علمية رصينة، إلا أنهم لم يكترثوا به ولم يقبلوها منه، وخاطبه أحدهم بقوله: أخالك طويلب علم. ولما حضر وقت الطعام لم يشركوه في طعامهم، وإنما أعطوه بعضه ليأكل وحده. وفي اليوم الثاني ذهب إليهم بزي فخم، فاستقبلوه أحسن استقبال وأكرموه وجعلوه في صدارة المجلس، ولما دخلوا في البحث شاركهم بآراء سخيفة، فاستحسنوها وقبلوها منه. ولما حضر وقت الطعام قدموه وتلطفوا إليه، فجعل كمه في الطعام وقال: كل يا كمي!! فاستعجبوا من فعله وسألوه عن أمره، فعرفهم بنفسه وقال لهم بما معناه: أنا صاحبكم وقد جئتكم بالأمس بعقل العلماء ولباس الفقراء فتجاهلتموني ولم تقبلوا مني، وجئتكم اليوم بعقل الجهال ولباس العلماء فقدمتموني وأكرمتموني وقبلتم مني، فأنتم لم تكرموا عقلي وعلمي، وإنما أكرمتم لباسي وشكلي، فاعتذروا له.
أيها الأحبة الأعزاء..
إذا كان العلماء الذين يفترض فيهم أنهم يدعون الناس إلى التمسك بالحق ويربوهم عليه، ويدعوهم إلى التغلب على كافة العوامل التي تحجبهم عنه، يصابون بمثل هذا الداء الخطير جدا الذي يحجبهم عن الحق على الصعيد النظري ويبعدهم عنه، فكيف بعامة الناس على صعيد العمل والتطبيق؟!
أيها الأحبة الأعزاء..
إذا أردتم أن تكونوا مع الصادقين بحق وحقيقة فاحذروا أن تكونوا أسرى الصور والعناوين والألقاب الجوفاء فتحجبكم عن الصدق والصادقين، وعليكم بالبحث عن الحق الحقيق من ورائها لتستطيعوا التعرف على الصادقين الحقيقيين لتكونوا معهم، ولن تستطيعوا أن تكونوا مع الصادقين بحق وحقيقة ما لم تتغلبوا على هذا الأسر وتشفوا من دائه الخطير عليكم في الدين والدنيا والآخرة.
الخطوة الثانية: الوفاء والإخلاص للقيادة الشرعية من الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول الذين يتصفون بالصدق بجميع معانيه.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ( التوبة : 120 ـ 121 ) .
خذوا العبرة والقدوة الحسنة من أصحاب الإمام الحسين البررة في يوم العاشر من المحرم في كربلاء المقدسة في العام 61هج.
أيها الأحبة الأعزاء..
لقد تحققت في ذلك المشهد العظيم في كربلاء المقدسة في يوم العاشر من المحرم الصورة الكاملة للكون مع الصادقين من الطرفين..
الطرف الأول: القيادة الصادقة المتمثلة في الإمام الحسين عليه السلام.
الطرف الثاني: الصدق في الإتباع والوفاء والإخلاص للقيادة الصادقة المتمثل في أصحابه البررة رضي الله تعالى عنهم.
فالإمام الحسين عليه السلام هو من القادة الصادقين قطعا، وقد علم أصحابه بذلك وقطعوا به واطمأنوا إليه من خلال الدليل العلمي والتجربة والوجدان، فمحضوا قائدهم الجامع لمعاني الصدق إخلاصا ووفاء، وصدقوا كل الصدق في نصرته والوفاء له والتضحية بكل ما يملكون من أجل الكون معه وتحقيق أهدافه الرسالية العظيمة في الحياة، ولم يدخروا شيئا في سبيل ذلك. وقد شهد الإمام الحسين عليه السلام بحقهم حيث قال: “لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي” .
أيها الأحبة الأعزاء..
تعلموا من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام كيف تختارون قياداتكم، وكيف تخلصون في إتباعهم. اطمأنوا إلى أن قياداتكم هم بحق وحقيقة من الصادقين الجامعين لمعاني الصدق على مستوى النظرية والتطبيق، ثم امحضوهم وفاء وإخلاصا وجودوا بأنفسكم معهم لتعيشوا سعادة الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته