الحديث يدور حول المرأة في ظل الإقتداء بالسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام والاهتداء بأنوارها الملكوتية في ظلمات الحياة ومتاهاتها.
ثلاثة نماذج للمرأة:
للمرأة المسلمة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة ثلاثة نماذج أساسية نحتاج أن نقف عليها بتمعن، بهدف فهمها جيدا، وتحديد موقفنا الإسلامي والإنساني منها – لاسيما النساء المسلمات – لكي ننجح في شق طريقنا نحو المجد والتقدم: المادي والمعنوي، ونحو الحياة الطيبة النزيهة الطاهرة والكمال الإنساني في الحياة الدنيا، والسعادة الأبدية الخالدة في الآخرة.
النموذج الأول
المرأة التقليدية
في هذا النموذج يكون التركيز على العفة والحجاب والستر والبيت والزوج والأولاد، ويكون حفظ العفة – غالبا – بالحبس وراء الأستار والجلوس في قعر الدار (لا تعرف الرجال ولا يعرفونها) وتشديد الرقابة الحسية عليها، وليس بتنمية الثقافة والوعي والتقوى وروح المسؤولية: (الدينية والاجتماعية) لديها.
فهذا النموذج لا يعطي للمرأة حق الانطلاق في الحياة العامة للمشاركة فيها والدعوة إلى الله عز وجل وإلى دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويفرض عليها قيود شديدة، لأن الانطلاق في الحياة – بحسب رؤية دعاة هذا النموذج – من مهام الرجال وموضوع عن النساء، فجهاد المرأة حسن التبعل، بأن تبقى في بيتها وتخدم بيتها وزوجها وأولادها، وأن خروجها إلى الحياة العامة يهدد عفتها وشرفها ويؤدي إلى ظهور الفساد في الأرض.
فالمرأة وفق هذا النموذج الاجتماعي تكون – غالبا – حبيسة بيتها، تنجب الأطفال، وتخدم الزوج والأولاد، وهي مسلوبة الإرادة وتابعة للرجل، فليس لها رسالة في الحياة خارج دائرة البيت على غرار الرجل، وليس لها رأي في الشأن العام والقضايا العامة: الدولية والإسلامية والقومية والوطنية، ولا دور لها في المجتمع غير الإنجاب وخدمة البيت والزوج والأولاد.
حتى النشاط الإسلامي إذا دخلت فيه: يكون مكانها التبعية للرجل، فهو الذي يخطط ويقود وهي تنفذ ما تأمر به فقط.
النموذج الثاني
المرأة المستغربة
وفيه تكون المرأة المسلمة عاشقة للحضارة الغربية وثقافتها، ومتنكرة للثقافة الإسلامية وقيمها، وغير ملتزمة بأحكام الدين الحنيف وتعاليمه، تحت شعارات خلابة ذات جاذبية كبيرة، مثل: تحرير المرأة من التبعية للرجل، والدفاع عن حقوقها الطبيعية والقانونية في الحياة.
ويكون التركيز في واقع هذا النموذج: على الذات / الأنا، والحقوق الفردية والحرية الشخصية للمرأة، والجمال الحسي، واللذة والرغبات الحسية، والمال، والمصالح المادية، وتنحسر معه القيم الروحية والمعنوية والمسؤولية العامة (وفق الرؤية اللبرالية وبتحفظ في الرؤية الاشتراكية الماركسية) مما يجعل من المرأة مجرد هيكل لحمي خاوي من المضمون، فتعيش في متاهات الحياة المظلمة لنفسها ولذاتها وغرورها، بروح حائرة ضالة قلقة لا تعرف وجهتها وغاية وجودها في الحياة، وبذهن تائه مشتت، بعيدة عن معرفة الله جل جلاله ونوره وطاعته، وبعيدة عن تاريخها وتراثها الإسلامي والقومي والوطني: الفكري والروحي والأخلاقي والقيمي، فتصبح كالشجرة المخلوعة من جذورها، مما يسهل السيطرة عليها وتحويلها إلى وسيلة لإلهاء المجتمع وإغوائه، وللدعاية والترويج للسلع الاستهلاكية على أساس الإثارة الجنسية كما هو واقع في الدعايات والإعلانات التجارية والتوظيف في السكرتارية والعلاقات العامة وغيرها، وهو في حقيقته تجاوز للمباديء في المجتمع الإسلامي، ويؤدي إلى تدمير القيم الثابتة: الروحية والأخلاقية، ويعزز الروح المادية والاستهلاكية فيه.
حقيقة المرأة المستغربة ملكوتيا:
فحقيقة المرأة في هذا النموذج – من الناحية الملكوتية – كسلة المهملات التي تملأ بالقاذورات أو كخضراء الدمن (النبات الأخضر فوق القمامة) كما في الحديث الشريف.
ملاحظات على النموذجين
(التقليدي والمستغرب): وأرى من الفائدة ذكر بعض الملاحظات المهمة حول النموذجين السابقين.
الملاحظة 1:
يعتبر النموذجان: التقليدي والمستغرب في ميزان الحقيقة الدينية النورانية المضيئة طرفان قبيحان – بتفاوت – لأنهما يمثلان طرفا: (الإفراط والتفريط) وهما حالتان قبيحتان مظلمتان لا نور فيهما ولا ضياء ملكوتي.
الملاحظة 2:
يعتبر النموذج التقليدي في الحقيقة استجابة للعادات والتقاليد والأمزجة الشخصية، وإن تم الترويج له باسم الدين والقرآن والسيدة الزهراء والسيدة زينب والصحابيات الجليلات. ويعتبر النموذج المستغرب صدى للثقافة الغربية الحديثة وحضارتها المناهضة للدين، وقد وقع رواد هذا النموذج والدعاة إليه من المسلمين في خطأ فادح في فهم هذا النموذج وتقدير الحاجة إليه ولدوره في المجتمع الإسلامي، حيث كانت الثقافة الغربية الحديثة الداعية لتحرير المرأة ومنحها حريتها وحقوقها الشخصية، ثورة ضد الكنيسة التي ساهمت في استعباد الإنسان وتخلفه والتقليل من شأن المرأة ودورها في الحياة، ورؤيتها في تحرير المرأة نابع من هذه الخلفية التاريخية والثقافية التي تمثلها الكنيسة، وليس الإسلام كالكنيسة في نظرته للإنسان والمرأة، كما سيوضح في الحديث عن النموذج الثالث إن شاء الله تعالى.
الملاحظة 3:
لقد تدخلت قوى الاستكبار العالمي ولا زالت تتدخل في الدعوة إلى النموذج الثاني / المستغرب، بهدف إفساد المجتمعات الإسلامية وتدمير قيمها وإرادتها وسلب هويتها الإسلامية واستقلالها والسيطرة عليها لصالح الاستعمار والثقافة الغربية الحديثة وحضارتها.
كما ساهمت الأنظمة الحاكمة المستبدة في العالم الإسلامي في دعم هذا النموذج وهي أنظمة غير ملتزمة بثقافة الشعوب الإسلامية ورسالتها في الحياة وبقيمها الروحية والمعنوية والأخلاقية وسالبة لإرادة شعوبها.
وهدف الأنظمة المستبدة من الترويج لهذا النموذج، هو الظهور بمظهر التقدمية وكسب ثقة قوى الاستكبار العالمي التي تخشاها وتعتمد عليها في وجودها.
بالإضافة إلى دعاة التغريب الثقافي من النخبة: رجالا ونساء.
وقد قامت مؤسسات نسائية تدعو إلى هذا النموذج، والدعاة إليه من الرجال والنساء، لا يمتون إلى الثقافة الإسلامية والقومية والوطنية بصلة، فهم غرباء عنها، ولهذا هم عاجزون عن التغيير في المجتمعات الإسلامية بكل ما في الكلمة من معنى، لأن الشعوب الإسلامية ملتزمة بالدين الإسلامي الحنيف وراضية عنه ومتفاعلة معه بقوة وجدية، وموقفها منه ليس كموقف الشعوب الغربية من الدين والكنيسة في العصور الوسطى. وإجلاء الحقيقة في هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش فكري وثقافي معمق لا يتسع له وقت هذه الكلمة.
الملاحظة 4:
إن سمات النموذج الأول / التقليدي من التطرف والظلم والحرمان من الحقوق الطبيعية الأساسية للمرأة وتهميش دورها الحضاري ومساهمتها في المجتمع، والدعوة إلى النموذج باسم الدين الإسلامي الحنيف والقرآن، وباسم السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء والسيدة زينب عليهن السلام والصحابيات الجليلات رضي الله تعالى عنهن من خلال التركيز على الشكل والصورة وتجاهل الجوهر والحقيقة النورانية الشاملة للسيدتين الجليلتين والصحابيات الجليلات، قد ساهم في تجميد حركة التطور في المجتمعات الإسلامية، وساعد على انتشار النموذج الثاني / المستغرب المخالف للدين والخارج عليه وفرش الأرض أمام الدعاة إليه لكي يتقدموا بدعوتهم بصورة أفضل في المجتمعات الإسلامية التي تتطلع إلى الحضارة والحرية والتقدم والازدهار.
ومن قبيح ما رأيت وسمعت: التركيز على السيدة زينب عليها السلام لأن والدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بحسب ادعائهم قد بالغ في سترها بسبب رؤيته الثاقبة للمستقبل وما يجري عليها وعلى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام من الأسر، بهدف فضح حكام بني أمية الذين قتلوا الإمام الحسين عليه السلام وأسروا نساءه وأطفاله وعرضوهم على القاصي والداني في الكوفة والشام، وعدم التركيز على السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام لأنها بحسب ما يدعون كانت – بحسب الظاهر – تكشف وجهها ولا تستره!!
فأي أتباع للهوى والنفس الأمارة بالسوء، وأي اعتداء على الحقيقة الدينية النورانية الثابتة الشاملة لصالح الأمزجة الشخصية والعادات والتقاليد والشكل المتغير أقبح من هذا الإتباع والاعتداء.
وللأسف أن هذا الإتباع والاعتداء يمارس من قبل علماء دين وباسم الدين الإسلامي الحنيف، وكأنهم أكثر فهما وغيرة وحرصا على الدين والمجتمع من رب العالمين ونبي الرحمة وسيدة نساء العالمين!!
وأنبه: بأني هنا لا أرد على الفتوى الشرعية التي تقول بوجوب تغطية الوجه، فهذا خارج عن اختصاصي العلمي، وأنا أقف دائما في المسائل الشرعية موقف المتعبد، وإنما أرد على رؤية فكرية مزاجية فاسدة، هي في ميزان الحقيقة في غاية القبح والسوء.
فالمطلوب من المؤمنين الأعزاء: التركيز على الحقائق الدينية النورانية الثابتة وليس الشكل المتغير بتغير الظروف، لأن التمسك بالشكل المتغير وتجاهل الظروف والأوضاع المتغيرة ومتطلباتها، سوف يؤدي إلى الإضرار بالحقائق الدينية الثابتة، ولن يستطيع حفظ الأشكال التي من شأنها التغير والزوال. فهذا الإصرار على التمسك بالشكل على حساب الجوهر والحقيقة الدينية ليس في محله، وهو بخلاف الحكمة والغاية، والعاقل – كما يقول الحكماء – لا ينقض غايته.
الملاحظة 5:
يعتبر النموذج الأول / التقليدي للمرأة في النتيجة – بحسب المقدمات – فاشلا وغير قادر على أداء الوظيفة التي يريدها الدعاة لهذا النموذج للمرأة في الأسرة، مثل: تربية الأطفال، ورعاية الزوج، وتدبير شؤون الأسرة.
فالتربية ورعاية الزوج وتدبير شؤون الأسرة لا ينحصر في رضاعة الأطفال وتبديل ملابسهم وتنظيفها، وتنظيف ملابس الزوج، وطهي الطعام، وكنس المنزل، ومراعاة فراش الزوج، وغيرها من الشؤون المماثلة، وإنما التربية والرعاية والتدبير، هي في الحقيقة: تنمية فكرية وروحية وأخلاقية ووجدانية واجتماعية واقتصادية وبدنية، لا يمكن أن تقدر عليها المرأة فاقدة الوعي والإرادة والمهمشة في الحياة، فالقاعدة الكونية تقول: فاقد الشيء لا يعطيه.
الملاحظة 6:
العفة في اللغة: هي الامتناع عن غلبة الشهوات، والكف عن كل قبيح وعما لا يحل شرعا فيما يتعلق بالقوة الشهوانية من قول أو فعل، وقهر النفس بالإعراض عنه.
والعفة في الاصطلاح: هيئة للقوة الشهوانية متوسطة بين الإفراط (الفجور) الذي هو الانهماك في اللذات والخروج فيها عن حدود العقل والشريعة المقدسة، والتفريط (الخمود) الذي هو ترك اللذات المشروعة التي يحتاجها البدن.
فكل من جاوز حد الاعتدال في إرضاء رغباته وشهواته لم يكن عفيفا.
والعفة في الرؤية الإسلامية: تحتاج إلى المعرفة بالله عز وجل وبدينه، وإلى طهارة روحية، وسلامة نفسية، والتزام راسخ بالمسؤولية الدينية والمجتمعية، وبصيرة بالعاقبة والمصير.
في مقابل: الجهل بالله عز وجل وبدينه، ولوثة الروح، ومرض النفس، والاستهتار بالمسؤولية الدينية والمجتمعية، والجهل بالعاقبة والمنتهى، مما يؤدي إلى الخروج على الفضائل وانتهاك الحرمات والمقدسات.
والنتيجة:
أن العفة الحقيقية لا تتحصل بالأستار والجلوس في قعر الدار والرقابة الحسية على المرأة أو الرجل، وإنما بالمعرفة والوعي والتقوى والإحساس الراسخ بالمسؤولية الدينية والإنسانية والمجتمعية، فمن حصل عليها حصل على العفة، ومن فقدها ضيع العفة والشرف، رجلا كان أو امرأة.
النموذج الثالث
المرأة الرسالية
في مقابل النموذجين: الأول والثاني / التقليدي والمستغرب، يوجد النموذج الثالث وهو النموذج الرسالي الذي يمثل الاعتدال بين طرفي: الإفراط والتفريط في أوضاع المرأة وأحوالها، وهو يمثل الحقيقة النورانية الوحيدة والجميلة للمرأة في الحياة، وهو النموذج الإسلامي الصحيح الذي يقوم على أساس الإسلام الخالص لله عز وجل والاستضاءة بنوره الرباني والالتزام المطلق بطاعته، وتؤكده القدوات الحسنة للنساء المؤمنات الصالحات، مثل: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد وفاطمة الزهراء وزينب الغراء ومريم أبنت عمران وآسية بنت مزاحم عليهن جميعا السلام وفيه تكون حقوق المرأة – كالرجل – مؤكدة وثابتة، وفيه تصون المرأة المبادىء الإنسانية والقيم السامية والطهارة الروحية، وتمارس ودورها الاجتماعي الفاعل على ضوء رسالتها الإسلامية وفلسفتها العميقة في الحياة بدون إعاقة أو تضييق.
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَ-ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
نجد في هذه الآية الشريفة المباركة: أن الله عز وجل قد جعل المسؤولية الدينية والمجتمعية المعبر عنها ب-(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مسؤولية مشتركة على قدم المساواة بين الرجل والمرأة، وهي مسؤولية شاملة بشمولية الدين لجميع جوانب الحياة، وعلى كافة المستويات: من القاعدة إلى القمة.
وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
نجد في هذه الآية الشريفة المباركة: أن الخطاب موجه للرجل والمرأة على حد سواء بدون تمييز بينهما، مما يدل على التساوي بينهما في القيمة الإنسانية والحقوق والواجبات. ونجد فيها التركيز على القيم الروحية والمعنوية في بناء الأسرة وإدارتها، وهي القيم التي تربط الإنسان بربه عز وجل، وتوجد روحا إنسانية مشتركة بين أفراد الأسرة: (الزوجين والأولاد) مما يدعو إلى صيانة الحقوق وعدم التعدي عليها، والالتزام بالقيم الإنسانية السامية، مثل: الحب والتشاور والإيثار والتضحية، في مقابل: التسلط والأنانية والحرمان وتحكيم المنافع المادية في العلاقات الأسرية، مما يعطي للحياة الأسرية طعما ومذاقا روحيا ومعنويا رفيعا.
والنتيجة: حياة زوجية مستقرة ومترابطة وسعيدة ومنتجة وفاعلة في المجتمع، وذات قيمة ورسالة واضحة في الحياة.
وهذا النموذج الرسالي المشرق الوضاء: هو النموذج الذي تمثله فاطمة الزهراء وزينب الغراء وخديجة الكبرى ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم (عليهن جميعا السلام) وغيرهن من النساء المؤمنات الصالحات اللواتي جعل الله عز وجل منهن قدوات حسنة لكافة المؤمنين والمؤمنات في جميع رسالات السماء.
ولكي تتحقق للمرأة المسلمة فضيلة الإقتداء الصحيح بهؤلاء النسوة العظيمات، يجب عليها أن تميز بين الحقيقة الثابتة لكل هؤلاء النسوة والأشكال المتغيرة بتغير الزمان والمكان في شخصياتهن.
مع التنبيه: أن التشبث بالأشكال قد يؤدي إلى تضييع الجوهر والحقيقة الثابتة، وهو خلاف الغاية والحكمة.
فليحذر المؤمنون الأعزاء من العمل على حفظ الأشكال المتغيرة بقوة الدين، فإنهم لن ينجحوا في حفظ هذه الأشكال المتغيرة المحكوم عليها بالزوال، لأن حفظها خلاف السنة العامة في الكون والحياة، ولكنهم من خلال الوقوع في هذه الطامة الكبرى سوف يقعوا في ظلم الحقيقة والمؤمنين ويضروا بالدين الحنيف وجوهره وحقائقه الثابتة، ويضروا بواقع المسلمين ومصالحهم الحيوية والجوهرية العليا، حيث يفقد الدين روحه وحقيقته وحيويته ودينامكيته، مما يفسد الغاية من الدين الحنيف في الحياة وينقضها.
وقد سبق التنبيه إلى مساهمة النموذج الأول / التقليدي للمرأة في الترويج للنموذج الثاني / المستغرب في المجتمعات الإسلامية.
والخلاصة:
لا يجوز أن نجعل من الدين الحنيف الذي لا يزول حارسا للأشكال والعادات والتقاليد المتغيرة التي تزول.
مقارنة سريعة بين النموذج التقليدي والرسالي
سوف أعقد مقارنة سريعة بين النموذج التقليدي والنموذج الرسالي لكي يكون المؤمنون الأعزاء على بصيرة بهما، ولا يقعوا في الخطأ غير المقصود بشأنهما.
المقارنة 1:
النموذج التقليدي لا يمتلك رؤية للحياة، فلا فلسفة لديه ولا رسالة ولا غاية ولا هدف واضح في الحياة، ويكون إحساسه بالمسؤولية بطبيعة الحال سطحيا.
أما النموذج الرسالي: فلديه رؤية وفلسفة تحدد له رسالته الإنسانية وغايته وأهدافه في الحياة، تقوم على الربط بين الإيمان بالله عز وجل ورسالة الإنسان في الحياة والقيم والمباديء التي تنظم حياته.. ولهذا: فلديه إحساس عميق بالمسؤولية.
المقارنة 2:
تخلو الأسرة في النموذج التقليدي – عادة – من الحماس والحرارة والجاذبية، فهي تقوم على أساس الستر بدل الحب (أي: التركيز على الستر وتجاهل عوامل التوافق والانسجام لقبول المرأة بالزوج والبقاء معه) وتخضع عملية الإنجاب والتربية إلى الغريزة بدل الرسالة، ويتركز الاهتمام على توفير الجوانب المادية، مثل: المسكن والمأكل والمشرب للتعبير عن الحب والاهتمام.
أما النموذج الرسالي: فيسوده الحب والإخلاص ويتجلي الجمال المعنوي في العلاقة الروحية والقلبية بين الزوجين {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} وتقوم العناية بالأطفال على أساس رسالي {والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} بدون أي تفريط في الستر الشرعي للمرأة والالتزامات المادية تجاه الأطفال والأبناء.
والخلاصة:
أن النموذج الرسالي يمثل بحق، مرآة صادقة للوعي الديني والمجتمعي والطهارة الروحية والقلبية والنهوض برسالة الدين وبالمسؤولية الإنسانية في الأسرة والمجتمع والدولة.
الجدير بالذكر: أن ما يقوله بعض الغربيين: بأن الشرقي لا يحب أطفاله لأنه لا يهتم بهم، يمكن أن ينصرف إلى النموذج التقليدي، ولا يمكن أن ينصرف بأي حال من الأحوال إلى النموذج الرسالي الذي يمثل شيئا مختلفا عن النموذج التقليدي في التربية والإعداد، حيث يهتم بالتنمية الشاملة للأطفال: الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والمادية والبدينة وغيرها، فهو يقدم للأطفال كل ما يقدمه النموذج الغربي من الاهتمام بالجوانب المادية ويزيد عليه بالاهتمام بالجوانب الروحية والمعنوية.
المقارنة 3:
في الوقت الذي يقوم النموذج التقليدي بالمساهمة في الترويج للنموذج الغربي لما تعانيه المرأة من الضعف والعجز وغياب الوعي والإرادة، وكردة فعل على ما تعيشه من الحرمان والتهميش، فإن النموذج الرسالي بما تمتلكه المرأة من الوعي واليقظة والهادفية والاحساس العميق بالمسؤولية والإرادة والدافعية في تحريك الحياة وقيادتها وتوجيهها الوجهة الواقعية الصحية، وبما يتجلى فيه من العشق لإنسانية المرأة وجمالها الروحي والمعنوي والاحترام والتقدير لدورها الإنساني في الحياة والمجتمع، فإنه يمثل في الحقيقة الخلاص من النموذج المستغرب وتقليص وجوده في المجتمعات الإسلامية، والمحافظة على الهوية الإسلامية والاستقلال الشامل للأمة ورسالتها الإنسانية في العالم.
هذا بحسب الحقيقة وليس الشكل الذي يتشبث به دعاة النموذج الأول.
فالنموذج الرسالي نموذج نوراني عظيم تعشقه المرأة السوية بفطرتها السليمة، وتمثل السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام القدوة الحسنة الكاملة لهذا النموذج.
لقد أعطت الزهراء عليها السلام بصفات الكمال فيها، مثل: العلم والتقوى والفضيلة والجهاد والتضحية والإيثار والإحساس العميق بالمسؤولية: الدينية والاجتماعية، القيمة الإنسانية العالية للمرأة بوجه عام والمرأة المسلمة بوجه خاص، وجعل منها معشوقة كل إنسان سوي على وجه الأرض، رجلا كان أو امرأة.
لقد كانت الزهراء عليها السلام: صنيعة نور الوحي والقيم السماوية السامية، ومنهما تستمد قيمتها الإنسانية العالية، ولم تستمد قيمتها من المال والجاه والثروة والسلطة وقوة السلاح كما هو حال نساء الفراعنة والطواغيت وأرباب الثروة والجاه والسلطة في العالم القديم والمعاصر، ولم تكن صنيعة الأمزجة والعادات والتقاليد المتخلفة البالية، فليس في مقدور الأمزجة والعادات والتقاليد البالية أن تخلق نماذج نورانية جميلة ومتقدمة، وإنما تخلق نماذج مظلمة قبيحة ومتخلفة.
ففي شخصية الزهراء عليها السلام: يتجلى نور الوحي وقيم السماء الرفيعة، مثل: العلم والعفة والفضيلة والتقوى والجهاد في سبيل الله عز وجل والحق والعدل والشعور العميق بالمسؤولية الدينية والمجتمعية والتضحية والفداء والإيثار وغيرها من القيم السماوية والإنسانية الرفيعة، مما جعل منها بحق مرآة الحقيقة الإنسانية النورانية الكاملة المتجسدة، تلك الحقيقة التي تعشقها كل القلوب الطاهرة النقية للرجال والنساء، في كل زمان ومكان، وفي كل الثقافات والحضارات الإنسانية – بحسب الفطرة الإنسانية المشتركة – فهي سيدة نساء العالمين التي تجمع في شخصيتها كل الفضائل الإنسانية السامية التي تعشقها كل القلوب بفطرتها السليمة التي فطر الله عز وجل الناس عليها.
ولكن المشكلة: أننا لا نقدم الزهراء عليها السلام لجميع الناس والثقافات بصورتها النورانية الكاملة التي رسمتها رسالة السماء وقيمها السامية الرفيعة، وإنما نقدمها بصورة مشوهة صنعتها أمزجتنا الشخصية بمقاييس العادات والتقاليد المتخلفة البالية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا وحكمناها بكل أسف في شريعة الله عز وجل وقيم السماء.. والحصيلة: أن تكون الزهراء عليها السلام لنا وحدنا نلبسها لباس عاداتنا وتقاليدنا ونفصل باسمها نموذجنا الاجتماعي للمرأة، فيكون النموذج من صنعنا نحن وليس من صنع السماء والقرآن والرسالة السماوية العظيمة، وهو النموذج التقليدي الذي يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن الجمود والتخلف في المجتمعات الإسلامية وضياع رسالة السماء العظيمة المقدسة في الحياة.
أيها الأحبة الأعزاء..
لقد كان سلوك الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع الزهراء عليها السلام يمثل ثورة ثقافية عظيمة في مجتمع جاهلي يرى القيمة للذكر ويحتقر المرأة ويعتبرها عارا ينبغي التخلص منه. فكان صلى الله عليه وآله وسلم يقبل يديها المباركتين ويبالغ في مدحها والثناء الرسالي عليها، حتى أوصلها بحق – وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى – إلى مقام الرضا: “إن الرب يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها” (مستدرك الحاكم : ج3. ص154).
ولم يكن للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من ولد سواها، فكانت هي الكوثر {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وأم الأئمة الأطهار عليهم السلام الذين ورثوا عن جدهم صلى الله عليه وآله وسلم رسالة السماء وحملوها بأمر الله عز وجل إلى الناس كافة، حتى يظهر الله عز وجل دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
والخلاصة:
أن العشق لفاطمة الزهراء عليها السلام والسير على خطاها، هو في الحقيقة، عشق للعلم والمعرفة والتقوى والفضيلة والطهارة الروحية والجهاد والتضحية والفداء من أجل الحق والعدل والإنسان،،
هو عشق لسلة هذه الصفات مجتمعة، وليس لصفة واحدة،،
هو عشق لكمال الإنسان وسيره بكله إلى الله ذي الجلال والإكرام والفناء فيه.
وفي الختام:
لا أنسى الاعتذار لما قد يسببه الكلام في هذه الليلة من أذى لبعض الأخوات، فليس المقصود من الكلام هو الإساءة والتسبب في الأذى، وإنما بيان الحقيقة والدعوة إليها من أجل الرشد في الموقف وانتهاج منهاج السعادة والحياة الطيبة للإنسان.
أيها الأحبة الأعزاء،،
أكتفي بهذا المقدار،،
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم،،
واعتذر إليكم عن كل خطأ أو تقصير،،
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء،،
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.