قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران: 169 ـ 170).
أيها الأحبة الأعزاء..
الشهيد حي قبل أن يستشهد، لأنه تجاوز الحياة الحيوانية بما تحمله من الغرائز والوقوف عند الحاجات المادية والأغراض الجزئية الصغيرة، إلى الحياة الإنسانية الروحية حيث القيم العالية والمبادئ السامية والاهتمامات الشريفة والكبيرة، وأصبح له بذلك نور رباني كاشف يمشي به في الناس، ويحسن تقييم الأمور، ويقدر على اتخاذ المواقف القوية الصائبة عن يقين. ولهذا جاد بروحه في سبيل الله عز وجل، وأقدم على الشهادة بنفس مطمئنة ملؤوها الثقة بالله سبحانه وتعالى وبنصره وحسن جزائه، بينما يبحث غيره عن المال والثروة والجاه والمنصب والسلطة ونحوها من المكاسب الدنيوية الخاسرة.
قال الله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} (الأنعام: 122) حيث يعتبر الشهيد أحد المصاديق العظيمة الظاهرة لهذه الآية الشريفة المباركة.
والشهيد حي بعد الشهادة، حياة حقيقية فعلية مؤكدة ثابتة في مكانة عالية في مقعد صدق عند الرب الجليل، فيها التشريف الجليل، والتكريم العظيم، والفضل الكبير، والنعيم المقيم المتجدد بصنوفه، والفرح الروحي الغامر، والسعادة الأبدية الخالدة الخالصة التي لا يشوبها الخوف والألم والحزن لأي سبب كان، فهي حياة آمنة مفعمة بالحيوية والنشاط، وليست حياة مجازية، مثل: الذكر الحسن وغيره فحسب.
قول الله تعالى {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (آل عمران: 169ـ170).
والشهيد حي بعد الشهادة، بالذكر الحسن الجميل بين الناس، وبالآثار الطيبة التي تركها في حياتهم على طريق الحقيقة العظمى والعدالة الكبرى والعزة والمنعة والكرامة والطهارة والشموخ والرفعة ونحوها.
ولهذا فرسالة الشهيد إلى الناس، هي:
• أن القتل في سبيل الله تبارك وتعالى ليس مما ينبغي الخوف والحذر منه والأسف لحصوله، وإنما هو شرف عظيم ينبغي التنافس من أجله لأنه عين الحياة التي يطلبها الإنسان ويرغب فيها.
• أن المطلوب من المؤمنين والشرفاء أن يحافظوا على مسلك الشهادة في الحياة، ويقدسوه ولا يضيعوه ولا ينحرفوا عنه إلى غيره خوفا وطمعا أو وهننا، فهي الطريق إلى نشر الحق، وإقامة العدل، وتحقيق العزة والمنعة. وهي الطريق إلى السعادة والفضل والكرامة والفرح الروحي الغامر في الدنيا والآخرة، وهي الطريق الذي لا خسارة فيه للإنسان أبدا.
قول الله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران: 170).
إن هذه الرسالة: فيها تعديل كامل لمفهوم الموت، وإظهار كامل لقيمة الشهادة في سبيل عز وجل بما يحمله هذا السبيل من تجسيد وإظهار لقيم الحق والعدل والكرامة والعزة والمنعة ونحوها، وفيها تحفيز للمشاعر الطيبة في نفوس المؤمنين الصادقين في إيمانهم المصدقين باليوم الآخر نحو الشهادة وتكريم الشهداء، وإزالة كل الحواجز الفكرية والنفسية والروحية التي تقف في طريق الشهادة، لكي يحثوا الخطى نحوها بنفس راضية مطمئنة، بهدف إعمار الحياة ورقيها وتطهيرها وتحقيق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة.
وفي الحقيقة: فإن كل الشعوب الحية تحترم شهداءها وتكرمهم وتقيم لهم وزنا كبيرا. ولكن ما يوليه الإسلام العظيم للشهداء من الاحترام والتقدير لا مثيل له في سائر الأديان والثقافات والحضارات الإنسانية في التاريخ كله. وبهذا الاحترام والتقدير المتميز للشهداء، استطاع الإسلام العظيم أن يخلق أمة مجيدة عظيمة تركع أمامها أعظم العروش والأمبراطوريات في التاريخ. وحينما مال المسلمون إلى الحياة الدنيا وشهواتها وزخارفها وفقدت الشهادة زخمها وقيمتها لديهم، فقدوا هيبتهم ومكانتهم وتجرأت عليهم الأمم وسلبتهم مقدراتهم وفرضت سيطرتها الاستعمارية عليهم.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.