القرية البحرينية… تاريخ وأصالة وأدوار حضارية
يحاول هذا البحث التاريخي – كما أوضحنا – أن يستعيد صورة ضائعة عن بربورة وتاريخها الزاهي، وهي منطقة من مناطق البحرين الفاعلة التي احتضنت العلم والرجولة والعزة والكرامة والاستقامة الإيمانية، وتركت تراثاً ثقافياً مخزوناً يحتاج إلى متابعته لإبرازه، وقد تعرضت بلدة بربورة تدريجياً للخراب كسائر القرى المندثرة، وآل أمرها إلى الانهيار في جوانب كثيرة من معالمها حتى غاب عن الوجود تجمعها البشري ثم تدريجياً أصاب بيئتها الطبيعية الخراب باستثناء القليل القيل، ولكن – مع ذلك – يشهد كل شيء لها بالبقاء شامخة حتى الآن في قلوبنا ومضيئة بعطائها وذكرياتها وآثارها في تاريخنا.
وتمثل القرى في بلادنا العزيزة (البحرين) العمود الفقري في التكون البشري للمجتمع، فهي تجمعات سكانية ذات أصالة تاريخية وبُعْد اجتماعي ممتد في تعاقب أجيال من المواطنين، فقد استقر أهل البحرين في تجمعات قروية مشهورة بأسمائها وعلمائها وإنجازاتها المادية ومآثرها الروحية والثقافية، وظل طابعهم الريفي يصبغ نمطهم الاجتماعي والثقافي لقرون متتالية حتى برزت في مطلع القرن التاسع بوادر بروز ونمو تجمعات سكانية جديدة بدوافع عمرانية حيناً وسياسية حيناً آخر، فظهرت مدن جديدة لاحقاٍ.
وتؤكد بعض الكتابات التاريخية أنه بعد معركة «أخكيكرة» أسس الشيخ سلمان بن أحمد آل خليفة مدينة الرفاع وبنى قلعته فيها، وأصبحت مقراً لسكناه، كما بنى الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة قلعته في حالة أبي ماهر وأسس مدينة المحرق، وكرَّر تثبيت هذه الحقيقة مؤرخون كمحمد خليفة النبهاني بطريق غير مباشر أو باحثين آخرين في تاريخ البحرين بطريق مباشر.
فـ «بعد انتهاء هذه الواقعة اختار الشيخ سلمان بن أحمد سكنى (الرفاع) فنزله ثم بنى به قلعة عظيمة على أساس قلعة فرير بن رحَّال وزير الشيخ الجبري بعد أن كان نازلاً بقرية «جو» على الساحل الشرقي جنوب البحرين.
ثم يقول النبهاني: «واختار الشيخ عبدالله بن أحمد سكنى المحرق ونزلها وبنى بها أيضاً قلعة في حالة أبي ماهر تسمى اليوم قلعة أبي ماهر، وهي خربة مهجورة منذ وقعة الضلع».
وهكذا بعد انتهاء «معركة إخكيكيرة» التي وقعت في نهاية العام 1225هجرية (1811 م) استعاد الشيخ سلمان بن أحمد ال خليفة حكمه على البحرين، وتمتعت البلاد بفترة من الهدوء والحذر استمرت أربع سنوات (1811 – 1815م)، حيث كانت علاقة البحرين قوية بمسقط، وكانت حكومة الإمام سعود مشغولة بحربها مع قوات محمد علي بقيادة ابنه طوسون باشا، وخلال هذه الفترة الشيخ سلمان قلعته واتخذها مقراً لحكمه وسكنه.
الكاتبة «منى برهان غزال» وهي باحثة في تاريخ البحرين الحديث ولها دراسة معروفة قالت أن جزيرة المحرق كانت قبل دخول آل خليفة البحرين كانت خالية من السكان أو هي في أحسن التقديرات مأهولة بعدد قليل من السكان، وأشارت إلى أنها كانت مسكونة بسكانها الأصليين الذين تجمعوا منذ قرون بعيدة في شمال الجزيرة وجنوبها على شكل تجمعات قروية قديمة في وجودها مثل قرى الدير وسماهيج في قرنها الشمالي الغربي، وقرية «عراد» في جنوبها.
الباحثة منى غزال ترى في إشارتها لإحدى حملات «الغزو العماني» الذي وقع في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر بالتعسف والقوة أن مدينة المحرق جديدة في وجودها، وكانت فيما مضى خالية من السكان إلاَّ فيما ندر، وهي التي أسست سنة 1225 هجرية (1810 م) بعد المعركة المذكورة… معركة (أخكيكرة) التي تعتبر اسماً لموضع في البحر بين الزبارة وفريحة».
تقول غزال في مقطع من بحثها إنَّ:
«مدينة المحرق في ذلك الوقت لم تكن مسكونة، وكل ما في جزيرة المحرق من القرى… الدير وسماهيج، وعراد» وكانت هذه الجزيرة كما يقال تعرف بجزيرة «عراد أو آراد.
ومن المؤكد أنَّ عدداً كبيراً من قرى بلادنا البحرين لا تزال قائمة حتى اللحظة الراهنة، ولا تزال أسماء علماء مشهورين بالعلم والتقوى والتميُّز الروحي والإنتاج الثقافي ينتسبون إليها كما تؤكد مصادر دراسة التراث الثقافي والتربوي لعلماء البحرين.
أمَّا بعض القرى الأخرى فقد بادت واندثرت معالمها، وأصبحت من ماضي البحرين الذي يطبع بصماته في حياتنا المعاصرة، لكن آثارها – وهي مادية – تطاول الزمان ويتألق بعضها في سماء التاريخ، وتفيض كتب التراجم والمصنفات الثقافية لعلماء البحرين بإشارات عنها.
بيد أن آثاراً ثقافية ومادية واجتماعية وروحية تدل على زوال مظاهر الوجود العمراني التاريخي لعدد من القرى ذات شأن في فترة زمنية ماضية ومنها على سبيل المثال قرى أبو رويس وفاران وهلتا والدونج والغريفة بالقرب من الشاخورة وبربورة وعالي معن، وعالي ثمود، وعالي حويص، وفارسية، وعسكر الشهداء وكَتَكان وسنابس ودي، وجزيرة الحسان، وشريبة، وضلع، وأوال، وجبيلات، ومشهد، وبستان، وظهران، وناصرية، والعقير، وحلة علي، وجمالة، وجبور، وحمرية، وخصيفة، وخرباباد، وروزكان، وسبسب، وشبافة، وشراكي ومري وغيرها».
ومن القرى البائدة التي ذكرها مؤرخون قريبو عهد بالفترة الأخيرة من اندثارها العمراني وتناقص سكانها كما في حالة اندثار قرية بربورة منذ عهد قريب لا تتجاوز في انهيارها أكثر من قرن، ففي هذا الصدد يذكر بربورة المرحوم الشيخ إبراهيم بن الشيخ ناصر بن الحاج عبد النبي بن يوسف آل المبارك الهجيري التوبلاني رحمهم الله، إذ يقول في دراسته التاريخية عن البحرين، «إن قرية (بربورة) المندثرة عمرانياً: «كانت في الزمان القديم بلاداً كبيرة جداً، وأمَّا الآن فسكانها قليلون، حديثو عهد بها، وخرابها قريب العهد لأنَّ أم جدي الحاج عبدالنبي كانت منها».
أي أن جدته رضوان الله عليها وأم جده الحاج عبدالنبي المبارك من أهالي منطقة بربورة التي كانت موجودة حتى بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، وقد صدح رضوان الله عليه بهذه المقولة التاريخية التي نحتاجها في مواجهة المتطاولين على تاريخ قرانا قبل أن يثير هؤلاء إشكاليتهم الظالمة بأكثر من ثلاثين عاماً هجرياً، ولم يكن الشيخ إبراهيم المبارك بحاجة إلى التعبير عن هذه الحاجة في ظروف موقف سياسي يثيره الإقصائيون لأنه لا أحد آنذاك ينكر وجود بلدة بربورة موطن جدته قضية، وإنما كان يسجل حقيقة وجود قرية جدته «كحدث تاريخي» في محيط زمانه، ويسجل بعض التحولات فيها.
ومما نعرفه أنَّ الأستاذ سالم النويدري كان يشغل نفسه بالدراسات والبحث عن تاريخ بعض قرى البحرين المندثرة من خلال عدد من الفعاليات الثقافية عن هذه القرى الأصيلة في مجتمعنا، حيث ذكر بعض القرى المندثرة لأسباب طبيعية أو اجتماعية أو سياسية أو داخلية، ومنها على سبيل ما ذكره في بحثه قرية الجارم أو فشت الجارم التي طمسها البحر وطغيانه، وكذلك قرية المزروعية التي كانت قرية بجزيرة مأهولة بسكانها، وأضاف أن قرى أخرى مندثرة لأسباب متعددة مثل قرية خصيفة في الدير، وأبو خفير في البلاد القديم، والبجوية الواقعة جنوبي قرية منى، والبدعة الواقعة بين قريتي السنابس والديه على الساحل الشمالي للبحرين، وقرية بربري التي تقع بين سار وعالي، وقرية بربورة الواقعة غرب النويدرات وجنوب سند، وقرية بندر الدار شرق سترة، وقرية بُنَّي وقرية البينة، وقرية جبل حيان جنوبي شرق عسكر، وقرية الحلة بالقرب من سماهيج، وكذلك قرية الجنمة إحدى قرى سماهيج.
على الرغم من الإشارات البيِّنَات والواضحات في بعض مصادر دراسة التراث التربوي والثقافي لعلماء البحرين وغيرهم من مؤرخي هذا التراث لأسماء هذه القرى البائدة ومنجزاتها الثقافية كحواضن للعلماء، فإن هناك من يحاول طمس معالم هذه القرى.
وتعتبر منطقة (بربورة) الواقعة في شمال وغرب قرية النويدرات من أهم المناطق السكنية ذات الامتداد السكاني – التاريخي في البحرين، فالمنطقة – وإن اندثرت اليوم – كانت إلى عهد قريب قائمة كوجود سكاني وعمراني واقتصادي، ودوائر الدولة ومؤسساتها تشهد على أصالتها التاريخية، وبقيت تسميتها متداولة إلى الآن رغم ما خرب منها حتى في أهم ما كانت تتمتع به وهو بيئتها الزراعية الخضراء التي رأيناها بأم أعيننا، فلا تزال ذاكرتنا في طفولتنا تعود بنا إلى بربورة… الجنة الغنَّاء الوارفة الظلال، وإلى نضارة أشجارها وجمالها الطبيعي التي وصفت بكلمات بعض المؤرخين من أبناء وطننا، ولم يعترض على وصفها مواطنون.
يقول المؤرخ البحريني الشيخ محمد علي التاجر في وصف بربورة… القرية الخضراء:
«وهي ذات بساتين من النخيل الباسقة وعيون الماء الدافقة وشرقيها آثار قديمة، وأهلها فلاحون وشرقها جنوباً قرية النويدرات».
ولا تزال بقايا حية من هذا الإرث الطبيعي الجميل موجودة حتى اللحظة الراهنة ضمن مساحة جداً قليلة في منطقة بربورة بعد أن غار ماؤها ونضبت العيون والآبار ومنابع الماء وهجرها أهلها حتى في فترة الظعن والرحل الصيفي المؤقت الذي عرفته لسنوات متعاقبة أدركنا بعضها حتى السبعينيات، وقد عايشنا ذلك في حياتنا، وفي فترة باكرة من طفولتنا هذه الطبيعة الحيوية والخلابة للمنطقة وفي نشاط أهلها من قرية النويدرات الواقعة في شرق بربورة، فالقرية البائدة لم تندثر تماماً، ولم يمض على اندثارها سوى سنين قد لا تزيد على قرن من الزمان فأقل قبل قرن وعشر سنوات ذكر «بربورة » عامرة الشيخ محمد علي بن الشيخ محمد تقي آل عصفور في كتابه «الذخائر »، وهو ما يعادل في الحساب والتقدير عمر إنسان… رجل أو امرأة على حد سواء.
أمَّا الآن فقد تعرضت «منطقة بربورة» للمحو شبه التام بتصحر غالية أراضيها المزروعة وخراب مبانيها، وزحف العمران عليها من جديد، وبدأت عناصر من العمالة الوافدة الأسيوية بالدخول فيها والسكن في أراضيها، وإقامة وحدات سكنية لهم على ترابها، بل استيلائهم على بعض معابدها الدينية، وتدمير بعض المساجد فيها والقبور المتناثرة هنا وهناك بالمنطقة.