قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
الخطاب في الآية الشريفة المباركة موجه للرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وفيه تأكيد على أن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم قائمة على أساس الرحمة، فهي عامة لكافة الناس على امتداد الزمن إلى نهاية الدنيا، ليأخذ بأيديهم بحسب قابليتهم إلى الهدى والأمن والطمأنينة والاستقرار والسعادة والكمال المقدر لهم في هذه الحياة، وأنها شاملة لأصول القواعد الفكرية والتشريعية والأخلاقية التي يحتاجها الإنسان في حياته على وجه الأرض، وأنها قادرة على تلبية متطلبات الحياة وإشباع حاجات الإنسان المتجددة فيها.
أيها الأحبة الأعزاء:
سوف أجعل الحديث حول الآية الشريفة المباركة في هذه الليلة العظيمة على ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول
بحث حول الرحمة: وفيه نقاط عديدة
النقطة الأولى: تعريف الرحمة:
الرحمة في اللغة رقة في القلب تستلزم التفضل والإحسان.. وفي الاصطلاح: انعطاف في النفس يقتضي العناية بالناس، وإفاضة الخير عليهم، والإحسان إليهم، ومواساتهم في أحزانهم وأفراحهم، والتخفيف من آلامهم ومعاناتهم في الحياة، والعفو عن أساءتهم والصفح عن أخطائهم، والامتناع عن الإيقاع والإضرار بهم والإساءة إليهم، والسعي لسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكل ذلك يقوم على أساس المحبة الصادقة لهم. وتطلق الرحمة في اللغة على الإيمان والرزق والعفو والعافية والمودة والنصر وعلى الرسل والكتب السماوية وغير ذلك من مظاهر الخير للدنيا والآخرة، فيقال للإيمان رحمة، وللرزق رحمة، وللعفو رحمة، وللعافية رحمة، وللمودة رحمة، وللنصر رحمة، وللرسول رحمة، وللكتاب رحمة، ويقال لكل ما من شأنه أن يكون سببا للحصول على الخير في الدنيا والآخرة رحمة، وتعتبر الرحمة فضيلة أخلاقية إسلامية عظيمة، يجب أن يتمتع بها كل إنسان مؤمن صحيح الإيمان.
النقطة الثانية: رحمة الله سبحانه وتعالى:
لا يجوز تصور الرقة في حق الله سبحانه وتعالى لأنه ليس محلا للحوادث والانفعال، فهو منزه عن الرقة والانفعال، فالرحمة منه سبحانه وتعالى تعني مجرد الإحسان إلى عباده والتفضل عليهم وإيصال الخير والثواب لمن يشاء منهم ودفع الضرر عنهم بدون رقة وانفعال.
والخلاصة: الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة في القلب وانعطاف في النفس.
النقطة الثالثة: اختلاف الرحمة لدى الأشخاص:
ويختلف الشعور بالرحمة لدى الأشخاص باختلاف المثل العليا التي يؤمنون بها، فإذا كانت المثل العليا التي يؤمن بها الشخص مبنية على التصورات المادية للحياة، فإن الشعور بالرحمة لديه لا يخرج عن دائرة المنفعة المادية التي يحصل عليها أو يقدمها لمن يستحقها بوجهة نظره، وتكون ضيقة وسطحية ومتقطعة، وأما إذا كانت المثل العليا التي يؤمن بها الشخص مبنية على التصورات الروحية والمعنوية للحياة، فإن الشعور بالرحمة لديه تكون دائرته أوسع وأغزر وأثبت، وعليه فإن حالة الرحمة الأكمل لدى الإنسان تكون لدى الأنبياء والأوصياء وعباد الله الصالحين، وفي مقدمة هؤلاء جميعا الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أفضل الأنبياء عليهم السلام وأكملهم، ومقدار الرحمة يتناسب دائما مع مقدار الكمال في النفس، فكلما كان الإنسان أكمل كان أكثر رحمة بالناس.
النقطة الرابعة: الرحمن الرحيم:
لقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه الرحمن الرحيم:
أما الرحمن: فصيغة فعلان تدل على سعة الرحمة وكثرتها ببذل جلائل النعم للعباد، فهو البالغ في الرحمة غايتها التي يقصر عنها كل من سواه، ولا غاية بعدها في الرحمة، ولا نظير لها ولا مثيل لدى الخلق، فهو صاحب الرحمة العامة التي وسعت الخلق جميعا بإيجادهم وإمدادهم بالبقاء فلا يمكن استمرارهم في الوجود بدون مدده، والشاملة لجميع النعم من الرزق وتوفير أسباب الهداية وتحقيق السعادة لكل بحسب استعداده وقابليته وضمان مصالحهم، ويصيب بها جميع عباده: المؤمن والكافر، الصالح والطالح، من يستحق ومن لا يستحق، في الدنيا والآخرة، فينال المؤمن والكافر نعم الدنيا، وينال المؤمنون وحدهم نعم الآخرة. ويعتبر الرحمن من الأسماء الخاصة بالله سبحانه وتعالى، حيث أن معناه لا يصح إلا له، فهو وحده الذي وسع كل شيء رحمة، فلا يسمى به غيره بخلاف أسم الرحيم الذي يستعمل في غيره.
وأما الرحيم: فصيغة فعيل تدل على اللطف والثبات والبقاء في بذل دقائق النعم لعباده المؤمنين، فهو دائم الرحمة بهم، وأن رحمته لهم ثابتة باقية لا تزول ولا تتغير، فهو يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا، ولا يعاقبهم في الآخرة، ويسكنهم الجنة خالدين في نعيمها الباقي أبدا بدون تغير أو انقطاع.
يقول العلامة الطباطبائي: “فهناك رحمة إلهية عامة يتنعم بها المؤمن والكافر والبر والفاجر وذو الشعور وغير ذي الشعور فيوجدون بها ويرزقون بها في أول وجودهم ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء، ورحمة إلهية خاصة وهي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الإيمان والعبودية، وتختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية في الدنيا، وجنة ورضوان في الآخرة ولا نصيب فيها للكافرين والمجرمين” (الميزان. ج9. ص 274).
وقيل: أن الله سبحانه وتعالى هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وذلك لأن رحمته في الدنيا تعم المؤمنين والكافرين وفي الآخرة تختص بالمؤمنين دون غيرهم.
ولكي يتحقق مضمون الآية الشريفة المباركة يجب أن يتوفر شرطان:
– الشرط الأول: أن تكون صفة الرحمة متحققة في الرسالة وثابتة فيها، والحديث فيه يمثل المحور الثاني.
– الشرط الثاني: أن تكون صفة الرحمة متحققة في شخصية الرسول وثابتة فيها، والحديث فيه يمثل المحور الثالث.
المحور الثاني
صفة الرحمة في الرسالة
نحن نعلم بأن الإنسان في حاجة فطرية إلى أن يهديه الله جل جلاله إلى سعادته التي خلقه من أجل الوصول إليها وتحقيق كماله المطلوب منه في الحياة الدنيا، ولهذه الغاية المقدسة العظيمة أرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب من السماء إلى الأرض، وهنا تبرز مسألتان تتعلقان بالرحمة.
المسألة الأولى: أن الله جل جلاله ما كان ليرسل الرسل وينزل الكتب لولا الرحمة التي كتبها على نفسه، فأصل الرسالة مبني على الرحمة الربانية، وقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه الرحمن الرحيم، وقد شرحت في المحور الأول بعض ما يختص برحمته بما يناسب المقام في هذا الحديث. وتعتبر الرسالات والكتب السماوية والإيمان أكبر نعمة أنعمها الله جل جلاله برحمته على الناس، فلا تقاس بها جميع النعم المادية من المأكل والمشرب والمنكح والمسكن والمركب وغيرها، فالنعم التي تحصل بها حياة القلوب والأرواح أعظم وأهم من النعم التي تحصل بها حياة الأبدان.
المسألة الثانية: من المنطقي والطبيعي أن تحمل الرسالة صفة الرحمة، لأنها من لدن رؤوف رحيم، ولا يمكن أن تخالف الرحمة في شيء، فكل ما في الرسالة هو رحمة للعالمين.
قال الله تعالى في بيان خصائص الرسالة ومظاهر الرحمة فيها: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
1. يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ
2. وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ
3. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157).
فدعوة الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تقوم على ثلاث قواعد أساسية هي مظاهر الرحمة فيها:
القاعدة الأولى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فهي تأمر شرعا بما تعرفه العقول الرشيدة وتعترف به وبما تقبله الطباع السليمة وبما ينسجم مع المبادئ والقيم الروحية والمعنوية العالية ويصب في مصلحة الإنسان ويحقق له السعادة والراحة في الدنيا والآخرة، وتنهى شرعا عن كل ما ترفضه العقول الرشيدة وتأباه الطباع السليمة وعن كل ما يخالف المبادئ والقيم الروحية العالية ويضر بمصلحة الإنسان ويؤدي إلى شقائه وتعاسته في الدنيا والآخرة. كما تضبط حركة المجتمع في دائرة القواعد الشرعية في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة والمستويات، بحيث تضمن استقامة المجتمع وعدم انحرافه عن الصراط السوي، وذلك من خلال الرقابة الاجتماعية الإيمانية الشاملة التي تفرضها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المؤمنين.
والخلاصة: أن قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعني مطابقة الرسالة كل المطابقة للعقل الرشيد والفطرة السليمة، وضمان الاستقامة على الصراط المستقيم والنهج القويم في الحياة.
القاعدة الثانية: تحليل الطيبات وتحريم الخبائث:
فكل ما هو طيب ونافع للإنسان فهو حلال شرعا، وكل ما هو خبيث ومضر للإنسان فهو حرام شرعا، فالدعوة لا تسمح للدولة مثلا بأن تتاجر بالأجساد والخمور من أجل تشجيع السياحة وتنمية الاقتصاد، لأن ذلك في جوهره مضر للإنسان، والإسلام لا يمنح الإنسان حرية الإضرار بجسده وروحه والإساءة إلى ذوقه وأخلاقه ولا يسمح بذلك، وهو عمل غير إنساني قطعا، والمطالبة به والسير فيه يدل على الجهل والضلال.
القاعدة الثالثة: إزالة كل ما يعيق حركة الإنسان وتقدمه:
فالدعوة تقوم على أساس اليسر والتسامح وعدم التكليف فوق الوسع والطاقة، والحرص على تقدم الإنسان وتطوره في جميع مجالات الحياة، فليس في الرسالة حكم يصعب على الإنسان القيام به، وهي تزيل من خلال التشريع كل ما يعيق حركة الإنسان الحضارية وكل ما يكبل عقله وانطلاقته الرشيدة في الحياة وكل ما يمنع تقدمه وتطوره في الحياة على جميع الأصعدة مع مراعاة القاعدتين: الأولى والثانية، فالدعوة ترفض مثلا الظلم والاستبداد والاستسلام لقوى الاستكبار العالمي والتضليل الإعلامي والإتباع الأعمى للقيادات والطبقية الفاحشة في المجتمع والفحشاء والفساد في الدولة والتمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو ما شبه ذلك، لأن ذلك كله مخالف لكرامة الإنسان ويعيق تقدمه وتطوره في الحياة.
فالرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو بحق وحقيقة: مفتاح الخير وباب الرحمة وصانع الحضارة الإنسانية ومصدر الأمن والاستقرار والطمأنينة في نفس الإنسان والمحقق لسعادته وراحته في الدنيا والآخرة. فهو أفضل من أمر بالعلم والمعرفة والفضيلة، وضمن حرية التفكير والانطلاقة الرشيدة في الحياة، والاستمتاع بالطيبات من الرزق، وحكم بالقسط، ودعا إلى الاستقامة والتسامح وإلى الإنسانية الواحدة التي تذوب فيها فوارق الجنس والعرق واللون، وأحل الطيبات وحرم الخبائث، وحرك نوازع الخير وكبح نوازع الشر لدى الإنسان، وساوى بين الناس أمام القانون والقضاء، وأعان الضعفاء ونصر المظلومين، وأزال الأغلال والأثقال التي تعيق حركة الإنسان وتمنع تقدمه وتطوره في الحياة، ونهى عن الظلم والبغي والجور والفحشاء والخيانة والتطرف والتمييز والاستبداد والاستكبار والفساد الأخلاقي والاجتماعي والإداري، وحلق بروح الإنسان وعقله في آفاق العلم والمعرفة والفضيلة والقيم الروحية والمعنوية العالية والصفاء والسلام الروحي والاجتماعي، وهذا يعني أن تكون أطروحات المؤمنين ومواقفهم تجسيدا فعليا وحقيقيا للرحمة الربانية، وإلا فهي لا تمت إلى الإسلام بصلة. فالإسلام الحنيف يدعو إلى الحق والعدل والاعتدال والفضيلة والتسامح، ويرفض الباطل والظلم والإرهاب والتطرف والعنصرية وقتل الأبرياء من أي دين أو مذهب كانوا ويرفض كل رذيلة.
والنتيجة (1):
أن يرفض المسلمون كل الأطروحات والمواقف الخالية من الرحمة والمناقضة لها، كالتي تقوم على التكفير والتمييز العنصري والطائفي والطبقي بين الناس، والتي تدعو إلى الفحشاء والجريمة وسفك دماء الأبرياء وتنشر الأحقاد والبغضاء بين العباد.
والنتيجة (2):
أن يسعى الشباب المؤمن المجاهد في سبيل الله عز وجل ليكونوا بحق وحقيقة القدوة الحسنة والمثل الناصع للإنسان الصالح القوى الحريص على منافع الناس ومصالحهم والقادر على عمارة الأرض، ليكونوا بحق وحقيقة المنقذون لهذا العالم من محنته التي يعيشها في صحراء الفلسفات المادية والرؤى الوضعية القاحلة الفقيرة على صعيد القيم الروحية والمعنوية والمتعبة لنفوس الذين يسيرون فيها والمرهقة لأرواحهم ومعنوياتهم الضعيفة أصلا.
المحور الثالث
صفة الرحمة في الرسول
إن كون أصل الرسالة مبني على الرحمة التي كتبها الله جل جلاله على نفسه وأنها تحمل في نفسها خصائص الرحمة، يتطلب أن يكون الرسول الذي يحملها إلى الناس متصف بالرحمة أيضا ليكون رسول الرحمة بحق وحقيقة، وهذا يتطلب توفر شروط معينة فيه.
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159).
وقال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128).
أيها الأحبة الأعزاء..
إن الخلق العظيم واللين في المعاملة والشفقة على الناس يأتي في مقدمة الشروط ويمثل الأساس الثاني بعد الإيمان الذي تقوم عليهما بقية الشروط.
قال الله تعالى في تثمين رسوله الكرم صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهكذا كان الرسول الأعظم الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ميزان الرب الجليل سبحانه وتعالى وهكذا كان في الواقع بشهادة الوقائع والأحداث، لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يمتلك قلبا كبيرا يتسع لكل مشاكل الناس وأخطائهم، وكان كثير الحب لهم، والحرص عليهم، والتفهم إلى مشاكلهم والصبر عليها، وتحمل المشاق من أجلهم، فلا يتعقد منهم، ولا يتشنج لما يصدر منهم من أخطاء، ولا يضيق بهم، ولا يقسو عليهم في المعاملة معهم، ولا يسيء إليهم، ولا تصدر منه الكلمات التي تؤذي مشاعرهم، ولا يفرط فيهم ولا يقابلهم بالإهمال والتضييع وعدم الاكتراث بهم، فكان يعطف عليهم ويعفو عن أخطائهم وينظر إلى العاصين منهم بعين الرحمة والشفقة لا بعين الازدراء والقسوة، ويستغفر لهم ويسعى لهدايتهم باللطف والموعظة الحسنة، ويحرضهم على التوبة ويفسح المجال أمامهم للتصحيح والتراجع عن الخطأ، وكان منفتحا على أصحابه ويقف على وجهات نظرهم في مختلف القضايا ويسمع لآرائهم ويكثر من مشاورتهم حتى قال عنه المنافقون بأنه أذن لكثرة ما كان يسمع لأصحابه ويشاورهم {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وكان يسعى للوقوف على مشاكلهم في الحياة وحلها ويعمل على تثبيتهم وإبعادهم عن الاهتزاز النفسي والروحي والأخلاقي والسلوكي وعن الاهتزاز في المواقف العامة في الحياة، وكان يخاطبهم بلطف وحميمة ويلامس مشاعرهم في حديثه معهم، ليتسلل حديثه إلى قلوبهم وعقولهم بسلاسة وعفوية وسهولة، فتلين له القلوب وتخضع له النفوس عن قناعة وإيمان وطيب خاطر، وتتعزز حالة الانتماء والانقياد إلى الرسالة والرسول القائد وتقوي روحية المؤمنين في مواقع الصراع، وكان يشق عليه وقوع أي ضرر أو أذى على أي إنسان مؤمن كان أو غير مؤمن ويتألم لذلك أشد الألم، فهو شديد الارتباط بالناس، ظاهر الخوف والحرص عليهم والساعي بكل ما لديه من أجل سعادتهم، فلا يتكلم إلا بما فيه هدايتهم ورشدهم، ولا يتخذ إلا المواقف التي تصب في مصلحتهم ومن خلال التشاور معهم، وهذا ما ينبغي أن يعيشه المسلمون في علاقتهم مع بعضهم البعض ومع غيرهم لاسيما القيادات منهم، فينبغي أن تتجسد الرحمة والأخلاق العالية في كلماتهم وفي علاقاتهم ومواقفهم في الحياة على كافة الأصعدة والمستويات، بعيدا عن نوازعهم الذاتية وأغراضهم الشخصية التي يسول لهم الشيطان تسويقها باسم الدين أحيانا.
فالرحمة والأخلاق العالية تمثل العمق الحقيقي الثاني في شخصية الإنسان المسلم الفكرية والعملية بعد الإيمان، وأنها تترجم في أطروحاته وسلوكه ومواقفه، فهي ليست مجرد شعار يرفع للدعاية أو انفعال مؤقت يطير مع أول تصادم أو تحدي مع الآخرين، فلا يكفي في شخصية الإنسان المسلم لاسيما القيادات أنها تمتلك العمق الفكري ووسائل السلطة وفرض النفوذ، وإنما يجب أن تتمتع بالأخلاق العالية وتتصف بالرحمة لكي تستطيع تجسيد جوهر الرسالة في سلوكها ومواقفها وتنجح في إيصال الدعوة إلى قلوب الناس وعقولهم لتتمكن من صياغة النفوس أولا الصياغة الربانية، ثم صياغة الحياة بكافة أبعادها، والبديل عن ذلك هو التفرق والتشتت، لأن الناس عادة يبتعدون عن أي شخص يغلق قلبه عنهم ويقابلهم بعدم الاهتمام وعدم الاكتراث ويقسوا عليهم في المعاملة معهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وعلى هذا الأساس المتين من الرحمة والأخلاق العالية والانفتاح يقوم الصفح عن الأخطاء واللين والتسامح مع الأتباع وعموم الناس وتبنى المشاورة في الشؤون العامة مع أصحاب الرأي والإصغاء لعامة الناس وخاصتهم في مختلف القضايا العامة التي تتعلق بهم والوقوف على مختلف وجهات نظرهم فيها، ويقوم الاهتمام بقضايا الناس وهمومهم اليومية المعيشية وغيرها والتفقد لأوضاعهم والمتابعة لأحوالهم بصفة دائمة، فلا يقسو القائد الإسلامي ولا يفرط في الأتباع والجماهير ولا يضيعهم ولا يستبد برأيه في اتخاذ القرارات المصيرية مهما كان مستواه وكانت قدراته، وإنما يسعى بحسب تكليفه إلى تأمين أكبر قدر ممكن من المشاورة والمناقشة من أجل الوصول إلى أفضل القرارات وأوسعها قاعدة، لكي يتجنب الخطأ والعثار قدر ما يستطيع، ويربي الأمة على التفكير مع القيادة وعلى تحمل المسؤولية الدينية والوطنية والاهتمام بأمور الناس وقضاياهم العامة وعلى متابعة أداء القيادة ومراقبتها ومحاسبتها والمبادرة إلى تقويمها إذا احتاجت إلى تقويم لكي لا تميل أو تضعف ولكي لا يستفحل الخطأ وتتعقد المشاكل.
يقول سماحة العلامة السيد فضل الله: “وتلك هي عظمة التربية الإسلامية التي توحي للقادة، وإن كانوا في مستوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يحتاج إلى فكر أحد، بأن يبحثوا عن القاعدة التي تفكر وتقتنع لتطيع من خلال ذلك، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي، وذلك كوسيلة مثلى من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد القاعدة” (من وحي القرآن. ج6. ص 344).
وهذا ما من شأنه أن يضمن استقامة القيادة وسلامة المسيرة ويضمن مصالح العباد وعدم التفريط فيها وعدم التلاعب بمقدراتهم، علما بأن الدكتاتورية والاستبداد هما ضد الرحمة وبخلاف الأخلاق العالية والمبادئ السامية وتدلان على تضخم الأنا والأنانية في اتخاذ المواقف.
أيها الأحبة الأعزاء
أكتفي بهذا المقدار
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته